للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي يَنْزِلُونَ إِلَى الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ ; لِلتَّزَوُّدِ مِنْ أَسْوَاقِهَا، وَإِذَا وُجِدَ السُّوقُ، وَوُجِدَتِ الْجَمَاعَةُ، اقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الْحَاكِمِ لِاحْتِمَالِ الْمُشَاحَّةِ وَالْمُنَازَعَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الِانْتِشَارِ لَا تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ، وَمِنْهُ انْتِشَارُ الْخَبَرِ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ، إِذَا كَانُوا يَتَكَتَّمُونَ، فَإِذَا اسْتَفَاضَ وَكَثُرَ مَنْ يَعْرِفُهُ، قِيلَ لَهُ: انْتَشَرَ الْخَبَرُ.

قَالَ صَاحِبُ مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي مَادَّةِ نَشَرَ: النُّونُ وَالشِّينُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى فَتْحِ شَيْءٍ وَتَشَعُّبِهِ، فَقَوْلُهُ: وَتَشَعُّبُهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ.

وَقَالَ يُقَالُ: اكْتَسَى الْبَازِي رِيشًا نَشْرًا، أَيْ: مُنْتَشِرًا وَاسِعًا طَوِيلًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِيشَ الْبَازِي كَثِيرٌ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَأَتَّى مَنْ نَفَرٍ قَلَائِلَ فِي بَادِيَةٍ، بَلْ لَا يَتَأَتَّى تَحَقُّقُهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُسْتَوْطِنِينَ. وَلَعَلَّنَا فِي هَذَا قَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَاصَّةً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجُمُعَةَ كَالْجَمَاعَةِ تَصِحُّ مِنْ أَيِّ عَدَدٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ كَانُوا، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ سَلَفٌ، وَخَالَفُوا بِهِ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ، مَعَ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ هَدْمِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، حَيْثُ إِنَّنَا وَجَدْنَا حِكْمَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَلِأَهْلِ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي كُلِّ ضَاحِيَةٍ.

ثُمَّ نَأَتِ الْجُمُعَةُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَالْمِصْرِ، وَمَنْ فِي ضَوَاحِيهَا عَلَى بُعْدِ خَمْسَةِ أَوْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ، كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَمَا كَانَ السَّلَفُ يَأْتُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا فِيهِ مِنْ تَجَمُّعٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى نِطَاقٍ أَوْسَعَ مِنْ نِطَاقِ الْجَمَاعَةِ.

ثُمَّ يَأْتِي الْعِيدُ وَهُوَ عَلَى نِطَاقٍ أَوْسَعَ فَيَشْمَلُ حَتَّى النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يَأْتِي الْحَجُّ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَلَعَلَّ مِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، إِذْ خَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ النُّزُولِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَبَيْنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْعِيدِ أَيْ: أَهْلِ الضَّوَاحِي.

ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَلَوْ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ مِنْهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَضَوَاحِيهِمْ ; لَأَرْشَدَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَعْفَاهُمْ مِنَ النُّزُولِ سَوَاءٌ فِي يَوْمِ الْعِيدِ الَّذِي يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>