للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا، أَيْ: الْفِضَّةَ ; لِأَنَّ كَنْزَ الْفِضَّةِ أَوْفَرُ، وَكَانِزُوهَا أَكْثَرُ فَصُورَةُ الْكَنْزِ حَاصِلَةٌ فِيهَا بِصِفَةٍ أَوْسَعَ، وَلَدَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ أَوْلَى، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لَمَّا كَانَتِ الْفِضَّةُ مِنَ النَّاحِيَةِ النَّقْدِيَّةِ أَقَلَّ قِيمَةً، وَالذَّهَبُ أَعْظَمَ، كَانَ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَكَأَنَّهُ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ، وَأَشَدُّ تَخْوِيفًا لِمَنْ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ.

أَمَّا الْآيَةُ هُنَا، فَإِنَّ التَّوْجِيهَ الَّذِي وَجَّهَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهَا: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ [٦٢ \ ١١] ، فَذَكَرَ السَّبَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ; لِانْفِضَاضِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، بِالتَّذْيِيلِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ التِّجَارَةَ هِيَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [٦٢ \ ١١] ، وَالرِّزْقُ ثَمَرَةُ التِّجَارَةِ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا قُرْآنِيًّا لِعَوْدِ الضَّمِيرِ هُنَا عَلَى التِّجَارَةِ دُونَ اللَّهْوِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ

قَالَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ: تأَمَّلْ إِنْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ عَلَى اللَّهْوِ فِي الرُّؤْيَةِ ; لِأَنَّهَا أَهَمُّ وَأُخِّرَتْ مَعَ التَّفْضِيلِ لِتَقَعَ النَّفْسُ أَوَّلًا عَلَى الْأَبْيَنِ. اهـ.

يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: فِي الرُّؤْيَةِ: (وَإِذَا رَأَوْا) ، وَبِقَوْلِهِ: مَعَ التَّفْضِيلِ: قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهْوَ أَبْيَنُ فِي الظُّهُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ عِنْدَ التَّفْضِيلِ ذَكَرَ اللَّهْوَ لِلْوَاقِعِ فَقَطْ ; لِأَنَّ اللَّهْوَ لَا خَيْرَ فِيهِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلْمُفَاضَلَةِ، وَآخَّرَ ذِكْرَ التِّجَارَةِ ; لِتَكُونَ أَقْرَبَ لِذِكْرِ الرِّزْقِ لِارْتِبَاطِهِمَا مَعًا، فَلَوْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ هُنَا أَيْضًا لَكَانَ ذِكْرُ اللَّهْوِ فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَهُوَ لَا يَتَنَاسَقُ مَعَ حَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>