وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَارُورَةَ عَلَى إِنَاءِ الزُّجَاجِ خَاصَّةً، وَلَكِنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْقَارُورَةِ عَلَى غَيْرِ آنِيَةِ الزُّجَاجِ كَالْفِضَّةِ مَثَلًا.
قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْقَارُورَةُ: مَا قَرَّ فِيهِ الشَّرَابُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الزُّجَاجِ خَاصَّةً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَوَارِيرَ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ أَوَانِي زُجَاجٍ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا أَحْسَنُ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ شِدْيَاقٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي مَادَّةٍ قَرَّ: الْقَافُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَرْدٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَمَكُّنٍ، وَذَكَرَ مِنَ التَّمَكُّنِ: اسْتَقَرَّ وَمُسْتَقَرٌّ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ اللِّسَانِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْبَابِ الْقَرُّ - بِضَمِّ الرَّاءِ -: صَبُّ الْمَاءِ فِي الشَّيْءِ. يُقَالُ: قَرَّرْتُ الْمَاءَ، وَالْقَرُّ: صَبُّ الْكَلَامِ فِي الْأُذُنِ، وَذَكَرَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ: ضِدَّ الْجُحُودِ ; لِاسْتِقْرَارِ الْحَقِّ بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَهَذِهِ مَقَايِيسُ صَحِيحَةٌ، فَإِمَّا أَنْ نَتَعَدَّى وَنَتَحَمَّلَ الْكَلَامَ، كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَتِ الْقَارُورَةُ لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِنَا. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ قِيَاسٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُ مَا وُضِعَ وَضْعًا.
وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي الْأَلْفَاظِ، هَلْ هِيَ بِوَضْعٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى كَمَا وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ، أَوْ أَنَّهَا تُوضَعُ بِالْقِيَاسِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هَلِ الْمُسْكِرَاتُ كُلُّهَا مَثَلًا يَتَنَاوَلُهَا مُسَمَّى الْخَمْرِ بِالْوَضْعِ فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً بِنَصِّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [٥ \ ٩٠] ، أَوْ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ عِلَّةِ الْإِسْكَارِ؟ وَعَلَيْهِ فَإِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ تُسَاعِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ قِيَاسًا، فَهُوَ أَقْوَى فِي الْحُكْمِ ; بِأَنْ يَأْتِيَ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِ الْعِلَّةِ. وَلَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْوَضْعِ: مِنْ أَنَّ اللُّغَاتِ مِنْهَا تَوْقِيفِيٌّ وَمِنْهَا قِيَاسِيٌّ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [٧٦ \ ١٦] تَوْجِيهٌ إِلَى حُسْنِ الصُّنْعِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقَاسَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute