مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَشْمَلُ صَبْرَهُ وَصَفْحَهُ وَعَفْوَهُ عَنْ أَعْدَائِهِ، وَمُقَابَلَتَهُ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسَعُ الْعَدُوَّ، كَمَا يَسَعُ الصَّدِيقَ.
كَقِصَّةِ عَوْدَتِهِ مِنْ ثَقِيفٍ: إِذْ آذَوْهُ سُفَهَاؤُهُمْ، حَتَّى ضَاقَ مَلَكُ الْجِبَالِ بِفِعْلِهِمْ، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنُّ مَلَكَ الْجِبَالِ مَعِي، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ، فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسِيئُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» .
وَتِلْكَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ وَأَقْوَى عِدَّةٍ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلِذَا تَوَجَّهَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ يَطْلُبُهُ إِيَّاهَا، لَمَّا كُلِّفَ الذَّهَابَ إِلَى الطَّاغِيَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [٢٠ \ ٢٤ - ٣١] .
فَذَكَرَ هُنَا مِنْ دَوَاعِي الْعَوْنِ عَلَى أَدَاءِ الرِّسَالَةِ أَرْبَعَةَ عَوَامِلَ: بَدَأَهَا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، ثُمَّ تَيْسِيرِ الْأَمْرِ، وَهَذَانِ عَامِلَانِ ذَاتِيَّانِ، ثُمَّ الْوَسِيلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرْعَوْنُ، وَهُوَ اللِّسَانُ فِي الْإِقْنَاعِ: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، ثُمَّ الْعَامِلِ الْمَادِّيِّ أَخِيرًا فِي الْمُؤَازَرَةِ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، فَقَدَّمَ شَرْحَ الصَّدْرِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ بِهِ يُقَابِلُ كُلَّ الصِّعَابِ، وَلِذَا قَابَلَ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ مِنْ سِحْرٍ عَظِيمٍ، وَمَا قَابَلَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ مِنْ عَنَتٍ أَعْظَمَ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ دَوَاعِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَإِنَارَتِهِ، مَا يَكُونُ مِنْ رِفْعَةٍ وَحِكْمَةٍ وَتَيْسِيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ تَلَقِّي تِلْكَ التَّعَالِيمِ مِنَ الْوَحْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [٧ \ ١٩٩] ، وَكَقَوْلِهِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [٣ \ ١٣٤] مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِمَّنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ. وَمِمَّا يُعِينُ الْمُلَازِمَةَ عَلَيْهِ عَلَى انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَفِعْلًا قَدْ صَبَرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَمُخَادِعَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَتَلَقَّى كُلَّ ذَلِكَ بِصَدْرٍ رَحْبٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute