للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مُعْتَبِرًا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةً، وَفِي الظَّبْيِ شَاةً ; لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَالنَّظَرِ مَا تَشَكَّلَ الْحَالُ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ وَجْهُ النَّظَرِ.

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ: الْمُشَابَهَةُ لِلصَّيْدِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مِنْهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الْآيَةَ، فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمِثْلَ الْخِلْقِيَّ الصُّورِيَّ دُونَ الْمَعْنَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: مِنَ النَّعَمِ، فَصَرَّحَ بِبَيَانِ جِنْسِ الْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ.

ثُمَّ قَالَ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ شِرَاءُ الْهَدْيِ بِهَا يُعِيدُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ؟ ، أُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْآيَةِ التَّقْرِيبُ، وَإِذًا فَنَوْعُ الْمُمَاثَلَةِ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِطْنَةِ التَّامَّةِ، كَكَوْنِ الشَّاةِ مَثَلًا لِلْحَمَامَةِ ; لِمُشَابَهَتِهَا لَهَا فِي عَبِّ الْمَاءِ وَالْهَدِيرِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ التَّحْقِيقَ فِي الْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ، وَالصِّيَامِ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ «أَوْ» حَرْفُ تَخْيِيرٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

فَإِنِ اخْتَارَ جَزَاءً بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَجَبَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [٢٢ \ ٣٣] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنًى، وَإِنِ اخْتَارَ الطَّعَامَ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ، أَنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>