وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ \ ١٥٥] ، وَقَوْلِهِ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ \ ٥] ، وَقَوْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [٢ \ ١٠] ، وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [٩ \ ١٢٥] ، وَقَوْلِهِ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ \ ١١٠] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، أَيْ: لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِكَلَامِ الرُّسُلِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَ كَذَا: إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْبُغْضِ لَهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [٢٢ \ ٧٢] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ الْآيَةَ [٤١ \ ٢٦] ، وَقَوْلُهُ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُبْصِرُوا، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ دَائِمًا.
الْخَامِسُ: أَنْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَالْإِبْصَارَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا الْحَقَّ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِدْرَاكَهُ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَوْلَ الْأَخْفَشِ الْأَصْغَرِ بِأَنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ مَقِيسٌ مُطْلَقًا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ.
السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [١١ \ ٢٠] مِنْ صِفَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ [١١ \ ٢٠] وَتَكُونُ جُمْلَةُ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ [١١ \ ٢٠] اعْتِرَاضِيَّةً، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، أَيِ الْأَصْنَامُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِأَحَدٍ.
وَيَشْهَدُ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَعْرَافِ» : أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْآيَةَ [٧ \ ١٩٥] ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَقْوَالٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute