نَهَاهُ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعَ بِهِ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ - جَلَّ وَعَلَا - النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ وَالْحَظَّ الْأَوْفَرَ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى النَّصِيبِ الْأَحْقَرِ الْأَخَسِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ إِنَّمَا أُعْطِيهِ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَالِاخْتِبَارِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي (طه) : فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [٢٠ \ ١٣٠ - ١٣٢] ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا: الْأَصْنَافُ مِنَ الَّذِينَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِالدُّنْيَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. كَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [١٦ \ ١٢٧] ، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [٣٥ \ ٨] ، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ \ ٦] ، وَقَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥ \ ٦٨] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَعْنَى: قَدْ بَلَّغْتَ وَلَسْتَ مَسْئُولًا عَنْ شَقَاوَتِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَشْقِيَاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ... فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٦ \ ٢١٥] ، وَكَقَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [٣ \ ١٥٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute