فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ رُؤَسَاءَ الضَّلَالِ وَقَادَتَهُ تَحَمَّلُوا وِزْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وِزْرُ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ.
وَالثَّانِي: وِزْرُ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا. وَإِنَّمَا أُخِذَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَنَّهُ وَتَسَبَّبَ فِيهِ، فَعُوقِبَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَصَارَ غَيْرَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ الْآيَةَ [٣٥ \ ١٨] .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ، قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَؤُوا عَنْهُ حَتَّى رُؤِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرَقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " اه.
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَخْرَجَهُ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ". وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا " اه.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْإِشْكَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ حَسَنَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي صَحِيفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَهُ مَثَلُ أُجُورِ جَمِيعِهِمْ ; لِأَنَّهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - هُوَ الَّذِي سَنَّ لَهُمُ السُّنَنَ الْحَسَنَةَ جَمِيعَهَا فِي الْإِسْلَامِ، نَرْجُو اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَتَمَّ صَلَاةٍ وَأَزْكَى سَلَامٍ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) [١٦ \ ٢٥] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بَعْدَ إِبْلَاغِ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ، الَّذِي لَا لُبْسَ مَعَهُ فِي الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute