للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي الْخُلَاصَةِ:

وَجَعَلَ اللَّذَّ كَاعْتَقَدَ

الثَّانِي: بِمَعْنَى صَيَّرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِجْرِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [٧١ \ ١٦] ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

.. وَالَّتِي كَصَيَّرَا ... وَأَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًا وَخَبَرًا

الثَّالِثُ: بِمَعْنَى خَلَقَ ; كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [٦ \ ١] ، أَيْ: خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.

الرَّابِعُ: بِمَعْنَى شَرَعَ ; كَقَوْلِهِ:

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهَضَ الشَّارِبُ السَّكِرِ

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقَ ... كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقَ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: سُبْحَانَهُ [١٦ \ ٥٧] ، أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مَا ادَّعَوْا لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا!

[[وقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل/٦١] .

وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده، وذكر المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في "آخر سورة فاطر": وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر/٤٥] الآية، وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) [الكهف/٥٨] الآية، وأشار بقوله: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل/٦١] إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل، وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم/٤٢] وقوله: (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) [العنكبوت/٥٣] .

وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر، كقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّر) [نوح/٤] الآية، وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون/١١] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

واعلم أن قوله تعالى: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) [النحل/٦١] فيه وجهان للعلماء:

أحدهما: أنه خاص بالكفار؛ لأن الذنب ذنبهم، والله يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام/١٦٤] ومن قال هذا القول قال: (مِنْ دَابَّةٍ) أي: كافرة، ويروي عن ابن عباس. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.

وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة]] (*) وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ ; حَتَّى إِنَّ ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ لَتُهْلِكَ الْجُعْلَ فِي حِجْرِهِ، وَالْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ: أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ «مَنْ» تَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: «مِنْ دَابَّةٍ» يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّابَّةِ نَصًّا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَعُمُّ بِالْهَلَاكِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا لَيْسَ بِظَالِمٍ؟ قِيلَ: يَجْعَلُ هَلَاكَ الظَّالِمِ انْتِقَامًا وَجَزَاءً، وَهَلَاكَ الْمُؤْمِنِ مُعَوَّضًا بِثَوَابِ الْآخِرَةِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» ، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ بِقَوْمٍ عَمَّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ،


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين [[المعكوفين المزدوجين]] استدركته من ط عالم الفوائد

<<  <  ج: ص:  >  >>