للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَلَامِ وَالْأَحْزَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٢٩ \ ٦٤] ، وَالْمُرَادُ بِالْحَيَوَانِ: الْحَيَاةُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ عَبْدَهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَيَرْزُقَهُ الْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ الْحَلَالَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [٢ \ ٢٠١] .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الْآيَةِ: حَيَاتُهُ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً ; وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ هِيَ أَنَّنَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ: حَيَاتُهُ فِي الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [١٦ \ ٩٧] ، صَارَ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ \ ٩٧] ، تِكْرَارًا مَعَهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ أَجْرُ عَمَلِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَلْنُحْيِيَنَّهُ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنُجْزِيَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ، وَهُوَ وَاضِحٌ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ تُؤَيِّدُهُ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْقَنَاعَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا هِيَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ وَالِانْشِرَاحُ بِهَا.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ،، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَعَهُ اللَّهُ بِمَا أَتَاهُ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيِّ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هَانِئٍ. عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجَنْبِيِّ، عَنْ فَضَالَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مِنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>