مُتَجَزِّئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا ضَرُورَةً إذْ هُوَ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا لَمْ يَكُنِ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا أَيْضًا؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْإِعْتَاقَ فِي النِّصْفِ وَيَتَأَخَّرُ الْعِتْقُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الضَّمَانِ أَوْ السِّعَايَةِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ وَهُوَ تَفْسِيرُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَنَا أَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الْمُعْتِقِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، لَكِنْ فِي الْإِعْتَاقِ حَقُّ اللَّهِ ﷿ وَحَقُّ الْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الرُّجْحَانِ.
فَالْقَوْلُ بِالتَّمْلِيكِ إبْطَالُ الْحَقَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُعْتِقِ بِإِهْدَارِ تَصَرُّفِهِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَرَةُ لِلْحَالِ، وَإِضْرَارٌ بِالْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إلْحَاقُ الذُّلِّ بِهِ فِي اسْتِعْمَالِ النِّصْفِ الْحُرِّ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ فِي التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالْمُعْتَقِ، فَفِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ السَّاكِتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ، فَالْجَوَابُ: إنَّا لَا نَمْنَعُهُ مِنْ التَّمْلِيكِ أَصْلًا وَرَأْسًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ وَيَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ وَيُكَاتِبَهُ، وَفِي التَّضْمِينِ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ، وَفِي الِاسْتِسْعَاءِ وَالْمُكَاتَبَةِ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى عِوَضٍ وَهُوَ السِّعَايَةُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى.
فَإِنْ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ؛ فَيَحْتَمِلُ التَّخْرِيجَ إلَى الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرُ تَخَرَّجَ إلَى الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِيُعْتَقَ بَعْد الْمَوْتِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِلْحَالِ فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ، لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي تَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَلسِّعَايَةِ، وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ يُسْقِطُ وَلَايَةَ التَّضْمِينِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ، فَكَاتِبُ نَصِيبِهِ يَصِيرُ نَصِيبُهُ مُكَاتِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ مُكَاتِبٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ أَيْضًا؛ فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ وَيَمْلِكُ إعْتَاقَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْإِعْتَاقِ.
ثُمَّ مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا كُوتِبَ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الْعُرُوضِ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الْحَيَوَانِ.
فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ اخْتِيَارُ السِّعَايَةِ، فَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ وَتَرَاضَيَا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَرْضَى بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ؛ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً لِدُخُولِهَا تَحْتَ تَقْوِيمِ أَحَدِ الْمُقَوَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً لِدُخُولِهَا تَحْتَ تَقْوِيمِ أَحَدِ الْمُقَوَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، يَطْرَحُ عَنْهُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ اخْتِيَارٌ لِلسِّعَايَةِ، وَالسِّعَايَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْعُرُوضِ، جَازَتْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ السِّعَايَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ قَلَّتْ الْعُرُوض أَوْ كَثُرَتْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْحَيَوَانِ جَازَتْ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ ابْتِدَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى حَيَوَانٍ وَيَجِبُ الْوَسَطُ، كَذَا هَذَا.
وَلَوْ صَالَحَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدَ أَوْ الْمُعْتِقَ عَلَى مَالٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ.
فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِدُونِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ فَيَجُوزُ، وَكَذَا إنْ كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَالْقِيمَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ تَكُونُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ فَيَكُونُ رِبًا كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ بَاطِلًا كَذَا هَذَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا مُطَّرِدٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، أَوْ غَصَبَ مِنْهُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ؛ فَالثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ الْقِيمَةُ حَتَّى لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا فَكَذَا ضَمَانُ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ عِنْدَهُمَا.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالصُّلْحُ عَنْ الْمُتْلَفِ أَوْ الْمَغْصُوبِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute