بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرِيكَ بِالْإِعْتَاقِ تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ؛ لِبَقَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى مِلْكِهِ وَيَدِهِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ ثَبَتَتْ شَرْعًا بِشَرِيطَةِ نَقْلِ مِلْكِ الْمَضْمُونِ إلَى الضَّمَانِ، فَإِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ فَلَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ فَتَبْقَى وِلَايَةُ التَّضْمِينِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ قَدْ ثَبَتَتْ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، كَمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِلْكُ الشَّرِيكِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْلِ.
فَنَقُولُ: الضَّمَانُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَنِدُ مِلْكُ الْمَضْمُونِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي بَابِ الْغَصْبِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ، وَإِذَا ضَمِنَ الْمُعْتَقَ يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمَّنَهُ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِذَا ضَمَّنَهُ مَلَكَ الْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْ مَاتَ مُفْلِسًا؛ هَذَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ.
وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ مِنْهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مَرَضِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ يُؤْخَذُ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مَرَضِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا حَتَّى لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْتَوْفِي الشَّرِيكُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا، كَانَ ضَمَانُ الْعِتْقِ ضَمَانَ إتْلَافٍ، وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ كَانَ الْمُعْتِقُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ كَانَ إعْتَاقُهُ إتْلَافًا أَوْ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مَعْنًى لَوَجَبَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَالِ الْيَسَارِ الْمُطْلَقِ وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ خُلُوصِ أَمْوَالِهِ، وَفِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْوَرَثَةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِلْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ وَلَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ وَلَا إعْتَاقُهُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ فَلَمْ يَكُنِ حَالُ الْمَرَضُ حَالَ يَسَارٍ مُطْلَقٍ وَلَا مِلْكٍ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ ضَمَانُ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ لِوُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالصِّلَاتُ إذَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمَرِيضِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ يَكُونُ هَذَا مِنْ مَالِ الْوَارِثِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْمَرِيضِ فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ وَالثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» وَهَكَذَا نَقُولُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ: إنَّهُ يَجِبُ صِلَةً، ثُمَّ قَدْ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ فِي حَقِّ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ صِلَةً ثُمَّ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً وَكَذَا الْكَفَالَةُ تَنْعَقِدُ تَبَرُّعًا حَتَّى لَا تَصِحَّ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ التَّبَرُّعِ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْغَيْرِ مُجَازَاةً لِصِلَتِهِ أَوْ تَحَمُّلًا عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِحُصُولِ النَّفْعِ لَهُ ثُمَّ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِالسِّعَايَةِ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي التَّحَمُّلِ عَنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، ثُمَّ إذَا صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَمَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ: مَا كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ، ثُمَّ كَانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ فِي مَرَضِهِ فَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيضِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ وُجِدَ ابْتِدَاءُ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ يَكُونُ الْمُؤَدَّى مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ؛ فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْإِعْتَاقِ أَوْ التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُمْ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ وَيَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَكَانَ لِلْمُوَرِّثِ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَكَذَا لَهُمْ، وَإِنْ انْفَرَدُوا فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْإِعْتَاقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute