للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُرِّيَّةِ ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ، وَدَلَالَةُ غَرَضِ الْمُدَبِّرِ، أَمَّا ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ هَهُنَا سِوَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِلْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا بَعْدَ الشَّرْطِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِهِ.

فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَسْنَا نَعْنِي ثُبُوتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبِّرِ إلَّا هَذَا، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إبْطَالُ السَّبَبِيَّةِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْبَيْعِ.

وَأَمَّا دَلَالَةُ الْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ غَرَضَ الْمُدَبِّرِ مِنْ التَّدْبِيرِ أَنْ يُسَلِّمَ الْحُرِّيَّةَ لَلْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْمَوْتِ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ﷿ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِإِعْتَاقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَإِمَّا حَقًّا لِخِدْمَتِهِ الْقَدِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَيَاتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَلَا طَرِيقَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضَيْنِ إلَّا بِجَعْلِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ لَوْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحَالِ لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ شَيْءٌ رَأْسًا لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الْعِتْقِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ لِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

فَكَانَ انْعِقَادُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَتَأَخُّرُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ طَرِيقُ إحْرَازِ الْغَرَضَيْنِ، فَثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَيَتَقَيَّدُ الْكَلَامُ بِهِ إذْ الْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِأَصْلِكُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أَسْبَابًا عِنْدَ وُجُودِ شُرُوطِهَا، وَعَلَى هَذَا بَنَيْتُمْ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَهَهُنَا جَعَلْتُمْ التَّدْبِيرَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالتَّنَاقُضُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلُ فَسَادِ الْفَرْعِ.

فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذَا أَصْلُنَا فِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِيمَا لَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ كَوْنَهُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ، وَهَهُنَا أَرَادَ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا، فَتَعَيَّنَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي الثَّانِي.

وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا، وَقَوْلُهُ بَاعَ حِكَايَةُ فِعْلٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بَاعَ أَيْ أَجَّرَ إذْ الْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ بَاعَ خِدْمَةَ مُدَبَّرٍ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ» وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَاعَ رَجُلًا بِدَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سُرَّقٌ» ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ بَيْعِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُدَبَّرِ إلْحَاقًا لِلْحَقِّ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ.

وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَوْ لَا يَمُوتَ.

فَكَانَ الشَّرْطُ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ سَبَبًا لِلْحَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَكَذَا لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ ﷿ بِإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، وَلَا قَضَاءَ حَقِّ الْخِدْمَةِ الْقَدِيمَةِ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غَرَضُهُ لَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ فِي التَّدْبِيرِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ.

فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ أَمْرٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْيَمِينُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُشْكَلُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ.

فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيلَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْحَالِ مُتَرَدِّدٌ لِتَرَدُّدِ مَوْتِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُوصًى لَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوِصَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ عِنْدَنَا.

فَكَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَتَمَلُّكِهَا، وَيَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ بِالتَّمْلِيكِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْمُدَبِّرِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ، وَبَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِخْدَامُ، وَكَذَا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ مُدَبَّرَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ آكَدُ مِنْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الثُّلُثِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>