ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ فِي الْأَمَةِ، فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى، وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُهُ وَالْأَرْشُ لَهُ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَسْعَى فِي دُيُونِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ إيصَالُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ مُعَجَّلًا، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ وُصُولِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ.
فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إيصَالِهِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَا الْمُدَبَّرُ، وَيَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ مُكَاتَبَةَ أُمِّ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَتِهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ ﵁ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ، فَقَضَى أَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مُدَبَّرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ ﵃ وَلَا يُعْرَفُ فِي السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ؛ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِنْ أَقْضِيَةِ عُثْمَانَ ﵁ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ﵃ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَقْتَ الْوِلَادَةِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ.
فَهُوَ رَقِيقٌ وَقَالَتْ هِيَ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَدَّعِي سِرَايَةَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ.
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ فِعْلَهُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا إثْبَاتُ التَّدْبِيرِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّدْبِيرِ عِتْقٌ فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْمُعْتَقَةِ: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَقَالَتْ: بَلْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ حُرٌّ يَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَكَذَا وَلَدُهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ، وَإِنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْأُمِّ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُدَبِّرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ.
إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمُقَيَّدِ الْمَوْتُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ حَقِيقَةً أَمْ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْمَوْلَى عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْأَمْلَاكِ.
وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فِي دَار الْإِسْلَامِ فَدَبَّرَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَ مُدَبَّرُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ حُكْمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، فَكَذَا فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَمِنْهَا أَنَّ عِتْقَهُ يُحْسَبُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ﵃ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِتْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَمَّادٍ وَجَعَلُوهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute