للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ.

وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوَّلُ مَنْ أَعْتَقَهُنَّ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ، وَلَا يَسْتَسْعِينَ فِي دَيْنٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمْرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَكَذَا جَمِيعُ التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَكَانَ قَوْلُ بِشْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: كَانَ رَأْيِي وَرَأْيِ عُمَرَ أَنْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُك مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك،.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ : اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك فِي الْفُرْقَةِ فَقَوْلُ عُبَيْدَةَ فِي الْجَمَاعَةِ إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ ثُمَّ بَدَا لِعَلِيٍّ فَيُحْمَلُ خِلَافُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى اسْتِقْرَارَ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَنْقَرِضْ الْعَصْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ يَرَيَانِ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ، لَكِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا سَبَبَ سِوَى الِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي التَّدْبِيرِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيْعِ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى بَيْعًا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَمَا كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَوْلِدِ.

فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مُرْتَدًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا، خَرَجَ إلَى دِيَارِنَا وَمَعَهُ أُمُّ وَلَدِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْتَأْمَنُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَجُوزُ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ، وَمَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ كَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَالْأُجْرَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ وَالْعُقْرُ وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَا مِلْكُ الْعَيْنِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ وَهُوَ التَّدْبِيرُ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ، فَكَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهُ، وَكَذَا الْأَرْشُ لَهُ بَدَلُ جُزْءٍ هُوَ مِلْكُهُ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْهُ فَيَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَيَصِيرَ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّزْوِيجُ تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كَاسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مِنْ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَوَّجَهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ وَلَدُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَهُ فِرَاشٌ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى لِزَوَالِ فِرَاشِهِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَقَالَ: هَذَا ابْنِي لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِسَبْقِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ، إلَّا إذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>