للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَبُولِ فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا فَقَبِلَ الصَّبِيُّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَا عَنْهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا فَقَبِلَ الْعَبْدُ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ، إلَّا أَنَّ فِي الْعَبْدِ إذَا أَجَازَ الْمَوْلَى فَالْوَلَاءُ مِنْ الْمَوْلَى، وَفِي الصَّبِيِّ إذَا أَجَازَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَوَقَعَ قَبُولُهُ لِمَوْلَاهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لِمَوْلَاهُ؟ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ؟ وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ مُكَاتَبًا جَازَ وَكَانَ مَوْلًى لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَجَازَ قَبُولُهُ؟ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؟ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا فَأَدَّى وَعَتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؟ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْ الِابْنِ؟ .

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَيَصِحُّ فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ، وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالَاةُ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا وَالَى ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا، وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَام أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَرِثُهُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْ الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٦] وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَتُعْطَى نَصِيبُهَا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ فَيَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ.

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَرَبِ فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ وَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ وَإِنَّ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» .

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقَ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِمَنْ عَاقَدَهُ أَوَّلًا فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ وَخَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَتُهُ غَيْرَهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ الَّذِي يُوَالِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ جَازَ عَقْدُهُ مَعَ آخَرَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْلِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الثَّانِي فَسْخًا لِلْأَوَّلِ.

وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرِ لَازِمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ يَجُوزُ لِلْآخَرِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.

وَهَا هُنَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ وَهُوَ الْقَابِلُ، فَكَذَا الْآخَرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>