فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وَضُوءًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يُصَبُّ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ فِيهِ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَضَعَ فِيهِ مِيزَابًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ الْحَائِطِ مَوْضِعَ كُوَّةٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّوْءُ، أَوْ مَوْضِعًا مِنْ الْحَائِطِ لِيَتِدَ فِيهِ وَتَدًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا فَرُبَّمَا تَمُوتُ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَابَّةٍ أُخْرَى، فَيَبْقَى فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ حَمُولَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِحَالَةِ النَّاسِ، فَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَقَدْرِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَمَّامِ، وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ بِأَنْ قَالَ: أُطْلِيك بِدَانِقٍ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا يَطْلِيه مِنْ غِلَظِهِ وَنَحَافَتِهِ، قَالَ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْبَدَنِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ يَسِيرٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ.
وَمِنْهَا: بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي إجَارَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِدُونِهِ، فَتَرْكُ بَيَانِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَسَوَاءٌ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ مِنْ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَالْقَوْلَانِ لَا مَعْنَى لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ هُوَ الْجَهَالَةَ فَلَا جَهَالَةَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمَ الْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَيَّنَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ.
وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْوَقْتُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ نَصًّا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِوَقْتٍ مُنَكَّرٍ، وَجَهَالَةُ الْوَقْتِ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَعْيِينَ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَبْقَى مَجْهُولًا، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَلَنَا إنَّ التَّعْيِينَ قَدْ يَكُونُ نَصًّا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلَالَةُ التَّعْيِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ عَقِيبَ الْعَقْدِ قَائِمَةٌ، وَالثَّانِي: إنَّ الْعَاقِدَ يَقْصِدُ بِعَقْدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِالصَّرْفِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ، فَيَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أَوْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ أَحَبَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فَوَجَبَ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي شَهْرٍ مُنَكَّرٍ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ، وَلَوْ آجَرَ دَارِهِ شَهْرًا أَوْ شُهُورًا مَعْلُومَةً فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْأَهِلَّةِ، بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ مَا مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ فَفِي إجَارَةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ.
وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الشَّهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ تَكْمِيلَ هَذَا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا اسْتَأْجَرَ سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهَذَا الْيَوْمُ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا قَدْ سَكَنَ فَلَمْ يَبْقَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ إلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا إذَا كَانَ سَكَنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشُّهُورِ لِلْأَهِلَّةِ إذْ الشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ لُغَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَيَّامُ وَيُمْكِنُ فِيمَا بَعْدَهُ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَصِيرُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَقَدَ الْإِجَارَةَ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَيَّامُ عَلَى إحْدَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute