كَانَ مَجْهُولًا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ.
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ يُوجَدُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَكُونُ بِبَيَانِ أَشْيَاءَ مِنْهَا: بَيَانُ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَجَرْتُك إحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْت أَحَدَ هَذَيْنِ الصَّانِعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَاعَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ دَارٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ النَّصِيبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ عَرَفَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ يَعْرِفُهُ، أَوْ لَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِيمَا قَالَ: وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَ النَّصِيبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مَعْلُومًا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ جَوَّزَ إجَارَةَ النَّصِيبِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالنَّصِيبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ النَّصِيبُ مَجْهُولٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ عَقَارٍ مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ أَرْضٍ جَرِيبًا أَوْ جَرِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الذِّرَاعِ عِنْدَهُ يَقَعُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحُلُّهُ الذِّرَاعُ مِنْ الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَذَلِكَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ، وَكَذَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا الذِّرَاعُ كَالسَّهْمِ وَتَجُوزُ إجَارَةُ السَّهْمِ كَذَا إجَارَةُ الذِّرَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ، إذْ الشَّائِعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ إجَارَةَ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الشَّائِعِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ وَنَذْكُرُ الدَّلَائِلَ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا مِنْ دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ إجَارَةَ الْمَشَاعِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَيْتٍ لِيَبِيتَ عَلَيْهِ شَهْرًا أَوْ لِيَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ نُسَخِ الْأَصْلِ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْعُلُوِّ، وَالضَّرَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَا ضَابِطَ لَهُ فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَأَثَّرُ لِثِقَلِ الْبِنَاءِ وَخِفَّتِهِ، وَيَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَشْغَلُ الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيَسُوقَ مِنْهُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ لَهُ فَيَسْقِيهَا لَمْ يَجُزْ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا يُجْرِي فِيهِ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ أَوْ رَحًى لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرُ عَلَى سَطْحِ الْمُؤَاجِرِ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا فَاسِدًا؟ ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا مِنْ أَرْضٍ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُسِيلُ فِيهِ مَاءَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ بِالتَّعْيِينِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَسِيلُ مِنْ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ وَالْمَسِيلِ مُخْتَلِفٌ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالنَّهْرِ وَالسَّطْحِ، وَالْمُضِرُّ مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَغَيْرُ الْمُضِرِّ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيُرَكَّبَهُ فِي دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ الْمُرَكَّبَ فِي دَارِهِ لَا تَخْتَلِفُ مَنْفَعَتُهُ بِكَثْرَةِ مَا يَسِيلُ فِيهِ وَقِلَّتِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute