يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ نَفْسه إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَفِي اسْتِئْجَارِهِ إيَّاهُ لِنَفْسِهِ نَظَرٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلصَّغِيرِ أَوْ يَسْتَأْجِرَ الصَّغِيرَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْأَبِ مِنْ الصَّغِيرِ وَشِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ النَّظَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، فَكَذَا الْإِجَارَةُ.
وَمِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى حِينِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَصْلٌ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ انْعِقَادِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَالتَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَأَجِيرِ الْوَحْدِ، حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا يَمْلِكُ هُوَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْ مَضَى بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا مَضَى لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَوْ أَجَرَ الْمَنْزِلَ فَارِغًا وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يُفْتَحْ الْبَابُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَهُ كُلُّ الْأَجْرِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَحَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ لَكِنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَابِ فَقَالَ: مُرَّ، وَافْتَحْ الْبَابَ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ بِالْمُعَالَجَةِ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا شَهْرًا أَوْ عَبْدًا يَسْتَخْدِمُهُ شَهْرًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَ وَاسْتَخْدَمَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ إبَاقٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ كَانَ زَرْعًا فَقَطَعَ شُرْبَهُ أَوْ رَحًى فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ لَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مُسَلَّمَةً بِتَسْلِيمِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا اعْتَرَضَ مَنْعٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْهَلَاكِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ لَا يَنْفُذُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَا دَامَ الْخِيَارُ قَائِمًا، لِحَاجَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِمَا مَرَّ لَكِنْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلِهَذَا جَازَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ ﷿ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَلِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ أَعْنِي الرُّكْنَ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وَالْإِجَارَةُ تِجَارَةٌ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَبَادُلُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُنَافِي الرِّضَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا إسْلَامُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مِنْهُمْ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَصِحُّ مِنْ الْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَحْجُورِ، وَيَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَضُرُوبٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute