للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا عَلَى أَنَّك إنْ قَعَدْت فِيهَا حَدَّادًا فَأَجْرُهَا عَشْرَةٌ، وَإِنْ بِعْت فِيهَا الْخَزَّ فَخَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِالسُّكْنَى وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ، وَحَالَةُ التَّخْلِيَةِ لَا يَدْرِي مَا يَسْكُنُ فَكَانَ الْبَدَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الرُّومِيِّ، وَالْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَجِبُ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْبَدَلُ وَيَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي خِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السُّكْنَى وَعَمَلَ الْحِدَادَةِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَا عَلَى الْجَمْعِ، وَقَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ هَهُنَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ عِنْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ الْغَالِبِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ، وَلَمْ تُوجَدْ زِيَادَةُ الضَّرَرِ وَأَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ مَعْلُومٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ، وَهَذَا جَوَابُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا كَانَ أَجْرُهُ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ بِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ جَائِزٌ، وَأَيُّ التَّعْيِينِ اُسْتُوْفِيَ وَجَبَ أَجْرُ ذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ وَإِنْ أَمْسَكَ الدَّارَ وَلَمْ يَسْكُنْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْمُسَمَّيَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ إلَّا أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَعِيرًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْقَصْرِ بِخَمْسَةٍ وَإِلَى الْكُوفَةِ بِعَشْرَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ النِّصْفَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَتْ النِّصْفَ فَحَالَ مَا يَسِيرُ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ خَمْسَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ (١) أَوْ أَكْثَرَ فَالْأُجْرَةُ حَالَ مَا يَسِيرُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ فَالْأُجْرَةُ خَمْسَةٌ وَإِنْ سَارَ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ أَعْطَى خَيَّاطًا ثَوْبًا فَقَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ بَاطِلَانِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَنَتَكَلَّمُ مَعَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا أَصْحَابَنَا الثَّلَاثَةَ فِيهِ، وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا، وَفَسَادُ الشَّرْطِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَمَنْ عَقَدَ إجَارَةً صَحِيحَةً وَإِجَارَةً فَاسِدَةً.

وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ، كَمَا لَا يَفْسُدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلَانِ مُتَفَاوِتَانِ فِي الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جُعِلَ مَشْرُوطًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِلْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلًا آخَرَ وَعَمِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْأَوَّلِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْبَدَلِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا فِي الثَّانِي لَمَا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى، وَإِذَا اجْتَمَعَ بَدَلَانِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَكَ دِرْهَمٍ أَوْ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْأَجْرُ مَجْهُولًا فَوَجَبَ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَإِذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ، وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>