بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمَفْصِلُ، وَكَذَا مَحَلُّ الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ وَالْوَدَجَانِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ اُقْتُلْ هَذَا الذِّئْبَ أَوْ هَذَا الْأَسَدَ وَلَك دِرْهَمٌ وَهُمَا صَيْدٌ لَيْسَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَتَلَهُ: فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا أُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي يَدِهِ فَيُحْتَاجَ فِي قَتْلِهِمَا إلَى الْمُعَالَجَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهِ وَعَمَلُ الْأَجِيرِ يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَفِيزَ دَقِيقٍ الْيَوْمَ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك هَذَا الْيَوْمَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَدَّمَ الْيَوْمَ أَوْ أَخَّرَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ أَيَّامًا مُسَمَّاةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْعَمَلُ مَعْلُومٌ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تَكُنْ الْمُدَّةُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، فَذِكْرُهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ أَيْ الْيَوْمَ فَلَهُ كَمَالُ الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ، كَمَا إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيُقَطِّعَهُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، أَوْ اكْتَرَى مِنْ رَجُلٍ إبِلًا إلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ إلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ كُلُّ بَعِيرٍ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، ثُمَّ إنْ وَفَى بِالشَّرْطِ أَخَذَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، أَعْنِي الْعَمَلَ وَالْمُدَّةَ أَمَّا الْعَمَلُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِبَازَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ مَا يَخْبِزُ جَازَ وَكَانَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجِيرًا خَالِصًا، وَالْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِي هَذَا لَيْسَ جَعْلُ الْوَقْتِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ صِفَةِ الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْيَوْمِ وَعَمِلَ فِي الْغَدِ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى مَكَّةَ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَعَلَى هَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً لَمْ يَجُزْ وَعَلَى هَذَا أَنْوَاعُ الْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَقَوَّمَيْنِ بِبَدَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ رَدَدْت الْآبِقَ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ رَدَدْتَهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْتَ هَذَا الْآخَرَ فَبِدِرْهَمٍ، وَعَمَلُهُمَا سَوَاءٌ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ سِرْت عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سِرْت إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَالْمَسَافَةُ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ عَيْنٍ فَنَعَمْ لَكِنْ فُوِّضَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فَالْإِجَارَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقْبَلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْبَيْعُ؛ وَلِهَذَا جَوَّزُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْبَيْعَ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ لَهُ: إنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمَانِ، أَوْ قَالَ لِصَبَّاغٍ: إنْ صَبَغْت هَذَا الثَّوْبَ بِعُصْفُرٍ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ صَبَغْته بِزَعْفَرَانٍ فَلَكَ دِرْهَمَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ إيفَاءِ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ؛ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَحِينَ يَأْخُذُ فِي أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْأَجْرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute