الْأَمْرُ بِهِ، وَالنَّذْرُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَنْصَرِفُ إلَى أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ.
(وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ، وَالْمَنْذُورُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ قُرْبَةً بَدَنِيَّةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَالِيَّةً كَالصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَوَقْتُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مُطْلَقًا، فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الشَّرْطِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ هُوَ إثْبَاتُ النَّذْرِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالشَّرْطِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، لِانْعِدَامِ السَّبَبِ قَبْلَهُ وَهُوَ النَّذْرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ: ﵊ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدِ كَذَا - يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ﵏، وَعِنْدَ زُفَرَ ﵀ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْأَدَاءَ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنْ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ ﷿، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَذْرِهِ إلَّا مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ أَدَاءِ الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً فَلَا يَدْخُلُ الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فِي يَوْمِ كَذَا - فَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَقْتُ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ نَفْلًا وَفِي وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ، كَصَوْمِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ؟ وَالنَّاذِرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الصَّوْمَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوَقْتِ؛ بَلْ بِالْمَالِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِيهِ لَغْوًا، بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النَّذْرُ، فَكَانَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ بِالنُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ.
(أَمَّا) النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ [الحج: ٧٧] وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦] وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا خِدْمَةَ الْمَوْلَى؛ وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَالتَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى مُحَالٌ، وَالْعُبُودِيَّةُ دَائِمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ دَائِمًا؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ دَائِمَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا دَائِمًا حَسْبَ دَوَامِ النِّعْمَةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا نَذَرَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ إذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَصَامَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ، إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُهُ لِعُذْرِ السَّفَرِ، فَإِذَا صَامَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَةَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الشُّرُوعُ فِي نَفْلِ الْعِبَادَةِ اللُّزُومَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا ذَكَرنَا مِنْ الدَّلَائِلِ بِالشُّرُوعِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَ، فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَذَا فِي النَّذْر.
وَالثَّانِي أَنَّهُ وُجِدَ سَبَب الْوُجُوب لِلْحَالِ وَهُوَ