للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَذْرًا، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا - يَكُونُ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ.

وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا - كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا، بَلْ إذَا بَقِيَ نَذْرًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِذَا صَارَ يَمِينًا لَمْ يَبْقَ نَذْرًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَتَحْتَمِلُ الْيَمِينَ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ، أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَثْبُتْ الْمَجَازُ، وَإِذَا انْقَلَبَ مَجَازًا لَمْ تَبْقَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، إذْ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْأَسَامِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ وَضْعِهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرْبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَرِّرًا فِي مَحَلِّهِ، وَمُنْتَقِلًا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.

(وَلَهُمَا) أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِإِيجَابِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْيَمِينِ وُجُوبُ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، بَلْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَوُجُوبُ الْفِعْلِ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ، لِأَنَّهَا مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْفِعْلِ فِيهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَحْظُورَةً أَوْ مُبَاحَةً.

وَلَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إلَّا فِيمَا لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جِنْسِهِ إيجَابٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ لِتَغَايُرِ الْوَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَتْ بِنَذْرِهِ، فَتَتَغَايَرُ الْوَاجِبَاتُ، وَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجَبًا فِي نَفْسِهِ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا كَأَنْ اقْتَدَى الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْلُوفَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاجِبًا، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ - وَهُوَ الْوُجُوبُ لِغَيْرِهِ - مَوْجُودًا فِي النَّذْرِ، فَكَانَ كُلُّ نَذْرٍ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عَنْ وُجُوبِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ اعْتَبَرَهُ فَصَارَ نَذْرًا وَيَمِينًا.

وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ مَعَ وُجُودِهِ وَتَقَرُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالنِّسْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِمَالُ لَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ كَالْكِتَابَةِ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمَكَاتِبِ.

(وَأَمَّا) النَّذْرُ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ مَا نَوَى إنْ كَانَ النَّاذِرُ نَوَى شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا تُجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُطْلَقًا يَحْنَثُ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّرْطِ، لِقَوْلِهِ : «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ الَّذِي لَا نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ هَذَا النَّذْرَ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً، بِأَنْ قَالَ: إنْ صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ - وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .

وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَإِنْ نَوَى طَعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ، فَلَمَّا نَوَى بِهِ الصِّيَامَ انْصَرَفَ إلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَانْصَرَفَ الْإِطْعَامُ إلَى طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ؛ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ، فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>