للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَقَلَّ الْأَكْلِ فِي يَوْمٍ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَجْبَةِ، وَهُوَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى زَوَالِ يَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ.

وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَفِي نِصْفِ الْيَوْمِ، وَالْوَسَطَ مَرَّتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً وَهُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ٦٢] ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ إذَا غَدَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ، أَوْ عَشَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ، أَوْ غَدَّاهُمْ غَدَاءَيْنِ، أَوْ عَشَّاهُمْ عَشَاءَيْنِ، أَوْ سَحَّرَهُمْ سَحُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَكْلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ، فَإِذَا غَدَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ عَشَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ كَانَ كَأَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْنًى إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ غَدَّى عَدَدًا وَعَشَّى عَدَدًا آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ أَكْلَتَانِ.

وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي التَّمْلِيكِ بِأَنْ فَرَّقَ حِصَّةَ مِسْكِينٍ عَلَى مِسْكِينَيْنِ فَكَذَا فِي التَّمْكِينِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّعَامُ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ، حَتَّى لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا بِلَا إدَامٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ : ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: ٨٩] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْدُومِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَطْعَمَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَرَّفَ الْإِطْعَامَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ.

وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَأْدُومًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَأْدُومٍ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْعَمَ خُبْزَ الشَّعِيرِ أَوْ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ فِي طَعَامِ الْأَهْلِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ: قَالَ إذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا غَدَاءً وَعَشَاءً أَجْزَأَهُ مِنْ إطْعَامِ مَسَاكِينَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ إلَّا رَغِيفًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْكِفَايَةُ وَالْكِفَايَةُ قَدْ تَحْصُلُ بِرَغِيفٍ وَاحِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ، فَإِنْ مَلَّكَهُ الْخُبْزَ بِأَنْ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ فَإِنْ كَانَ يَعْدِلُ ذَلِكَ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَكَانَ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مُدًّا مُدًّا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ حَالَ الِانْفِرَادِ كَذَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ، وَلِأَنَّ الْغَدَاءَ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ وَالْمُدَّ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَتِهِ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كِفَايَةُ يَوْمٍ فَيَجُوزُ، فَإِنْ أَعْطَى غَيْرَهُمْ مُدًّا مُدًّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فَرَّقَ طَعَامَ الْعَشَرَةِ عَلَى عِشْرِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ كِفَايَتِهِ، وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَى قِيمَةَ الْعَشَاءِ فُلُوسًا وَدَرَاهِمَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْكَفَّارَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَقُومُ.

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْغَنِيِّ عَنْ الْكَفَّارَةِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: ٨٩] ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ يَجُوزُ إطْعَامُهُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ إيَّاهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى.

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ، وَهَذَا فِي إطْعَامِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ : ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُرَاهِقًا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فَيَحْصُلُ الْإِطْعَامُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكَهُ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِ صَرْفٌ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُهُمْ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ لِمَا اقْتَرَفَ مِنْ الذَّنْبِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مُنَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى هَوَاهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الْآذِنِ وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِمَا تَتَأَلَّمُ بِهِ النَّفْسُ وَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ لِيُذِيقَ نَفْسَهُ الْمَرَارَةَ بِمُقَابَلَةِ إعْطَائِهَا مِنْ الشَّهْوَةِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِإِطْعَامِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَأَلَّمُ بِهِ بَلْ تَمِيلُ إلَيْهِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الطَّبَائِعَ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ نُزُولَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ بِهِمْ، وَبِحَيْثُ يَجْتَهِدُ كُلٌّ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْهُمْ مِثْلَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَطْعَمَ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ وَهُوَ فَقِيرٌ جَازَ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَدَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: ٨٩] ، وَلَوْ أَطْعَمَ وَلَدَهُ أَوْ غَنِيًّا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ.

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَهُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَعَوَّضَهُمْ بِخُمْسِ الْخُمْسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>