للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شُكْرِهَا فَيَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا فَالْجَوَابُ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالثَّانِي إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْيِيرِ أَيْ إنَّكُمْ تَجْعَلُونَ مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ بَعْضَهَا حَرَامًا وَهُوَ الشَّرَابُ وَالْبَعْضَ حَلَالًا وَهُوَ الدِّبْسُ وَالزَّبِيبُ وَالْخَلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا﴾ [يونس: ٥٩] .

وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ عَلَى الْحَرَامِ لَا عَلَى الْحَلَالِ، وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَلَكِنْ يُضَلَّلُ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ وَلَمْ يُوجَدْ بِالسُّكْرِ لِأَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١] وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِالسُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ثَابِتَةً بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيز كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْن الْحُرْمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» .

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى السُّكْرِ فِي كُلِّ شَرَابٍ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحُرْمَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَكَذَا جَمَعَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِّ فَقَالَ فِيمَا أَسْكَرَ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ وَفِي الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ وَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْخَمْرِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ قَالَ اللَّهُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦] وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَالْمَالُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ مَعَ كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ بِاسْمِ الْخَمْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ.

(وَمِنْهَا) حُكْمُ نَجَاسَتِهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا كَالْخَمْرِ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَصْلًا لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: ٩٠] فَيَخْتَصُّ بِاسْمِ الْخَمْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِانْتِفَاعِ لَكِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي نَجَاسَتِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النِّيءِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ.

(وَأَمَّا) حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنْهَا أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ أَوْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَهُوَ الْمُنَصَّفُ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَيَصِحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ فَالْحَرَامُ فِيهِ بَانَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ إنِّي أُتِيت بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ مَنْ قِبَلَك فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.

وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ وَإِذَا سَكِرَ حُدَّ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>