وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵄ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ.
(وَأَمَّا) الْمَطْبُوخُ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُمَا فَيَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا السُّكْرُ مِنْهُ وَهُوَ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ﵄، وَعَنْ مُحَمَّدٍ ﵀ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ لَا أَشْرَبُ مِنْهُ، وَالْحُجَجُ تُذْكَرُ فِي الْمُثَلَّثِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَهُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الطَّبْخِ بَقِيَتْ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ يَغْلِي وَيَشْتَدُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْلَطَ بِغَيْرِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الطَّبْخِ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الطَّبْخِ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يُخْلَطُ بِهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْغَلَيَانَ أَصْلًا، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَالْمَاءُ يَغْلِي، وَيُسْكِرُ إذَا خُلِطَ فِيهِ الْمَاءُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِالطَّبْخِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁ فِيمَا رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ يَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، يَعْنِي إذَا كَانَ يَغْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ سُلْطَانُهُ وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَغْلِي بِنَفْسِهِ بِأَنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ الْمَدْقُوقُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طُبِخَ نَقِيعُهُ أَدْنَى طَبْخَةٍ، فَأَمَّا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ كَمَا هُوَ وَصُفِّيَ مَاؤُهُ ثُمَّ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ﵏ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْقَاعَ الزَّبِيبِ إحْيَاءٌ لِلْعِنَبِ، فَلَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُهُ إلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ﵀ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِأَنَّهُ زَبِيبٌ انْتَفَخَ بِالْمَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمُثَلَّثُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا لَا يُسْكِرُ يَحِلُّ شُرْبُهُ.
(وَأَمَّا) الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ﵄ وَرَوَى مُحَمَّدٌ ﵀ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ﵀ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ ﵀ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ وَقُعُودُهُ لِذَلِكَ وَالْمَشْيُ إلَيْهِ حَرَامٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَرُوِيَ عَنْهُ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ» إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِكَوْنِهِ مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ، وَمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ﵄ احْتَجَّا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ﵃.
(أَمَّا) الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ» (وَأَمَّا) الْآثَارُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، وَيَقُولُ: " إنَّا لَنَنْحَرُ الْجَزُورَ وَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا النَّبِيذُ الشَّدِيدُ.
(وَمِنْهَا) مَا رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ﵄ إنِّي أُتِيتُ بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ، نَصَّ عَلَى الْحِلِّ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ زَوَالُ الشِّدَّةِ الْمُسْكِرَةِ بِقَوْلِهِ " وَيَذْهَبُ رِيحُ جُنُونِهِ "، وَنَدَبَ إلَى الشُّرْبِ بِقَوْلِهِ " فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ (وَمِنْهَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا فَسَقَاهُمْ فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ فَحَدَّهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: " تَسْقِينِي ثُمَّ تَحِدُّنِي "، فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ ﵁: " إنَّمَا أَحِدُّكَ لِلسُّكْرِ وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ: اشْرَبْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَإِذَا خِفْت السُّكْرَ فَدَعْ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِحْلَالُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيقِهِمْ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلِهَذَا عَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ ﵁ إحْلَالَ الْمُثَلَّثِ مِنْ شَرَائِطِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِي