وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدُّهْنُ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِنْ الدُّهْنِ الَّذِي فِي السِّمْسِمِ حَتَّى يَكُونَ الدُّهْنُ بِإِزَاءِ الدُّهْنِ وَالزَّائِدُ بِإِزَاءِ الزَّائِدِ خِلَافِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْكُسْبُ، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْجَوْزِ بِلُبِّ الْجَوْزِ.
(وَأَمَّا) دُهْنُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مُجَازَفَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَالِ بِالْحَدِيدِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ جَائِزٌ مُجَازَفَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ ﵀ فَهُوَ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ لَهُ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ مَأْكُولٍ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْجَوَازُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ رُخْصَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ اللَّحْمِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ الرِّبَا.
(وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا (فَوَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ الْمُجَازَفَةِ هَهُنَا احْتِمَالُ الرِّبَا؛ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ بِمُرَاعَاةِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ فَلَزِمَ مُرَاعَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الرِّبَا أَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَنْزُوعُ أَقَلَّ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَزْنًا، فَيَكُونَ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ مَعَ السَّقَطِ زِيَادَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ السَّقَطُ زِيَادَةً فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ تَحَرُّزًا عَنْ الرِّبَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَيَجُوزُ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً، اسْتِدْلَالًا بِبَيْعِ الْحَدِيدِ الْغَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِالنِّصَالِ مُجَازَفَةً، يَدًا بِيَدٍ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ اللَّحْمَ الْمَنْزُوعَ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا - فَاللَّحْمُ الَّذِي فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ مَا لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثِقْلِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ثِقْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِالتَّجْرِبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ.
(أَمَّا) الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُوزَنُ بِالْقَبَّانِ عُرْفًا وَلَا عَادَةً، وَلَوْ صَلَحَ الْوَزْنُ طَرِيقًا لِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الْوَزْنِ ثَابِتٌ، وَالْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهَا مَاسَّةٌ حَتَّى يَتَعَرَّفَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْجَسِّ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ، وَالرَّفْعِ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ يَثْقُلُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيَخِفُّ أُخْرَى فَيَخْتَلِفُ وَزْنُهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ.
(وَأَمَّا) التَّجْرِبَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ، وَوَزْنُ الْمَذْبُوحِ لِيُعْرَفَ اللَّحْمُ الَّذِي كَانَ فِيهَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ - لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَلَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقْلِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ بِالتَّجْرِبَةِ.
(وَأَمَّا) الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَإِنَّهُ لَا حَزْرَ لِمَنْ لَا بَصَارَةَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَهُ بَصَارَةٌ يَغْلَطُ أَيْضًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِرِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ بَيْعِ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ بِالتَّجْرِبَةِ، بِأَنْ يُوزَنَ قَدْرٌ مِنْ السِّمْسِمِ فَيُسْتَخْرَجَ دُهْنُهُ فَيَظْهَرَ وَزْنُ دُهْنِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، أَوْ يَعْصِرَ الْجُمْلَةَ فَيَظْهَرَ قَدْرُ الدُّهْنِ الَّذِي كَانَ فِيهَا حَالَةَ الْعَقْدِ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ مِنْ الدُّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؟ فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مُجَازَفَةً، فَلَمْ يَجُزْ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً غَيْرَ مَسْلُوخَةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ - لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ مَوْزُونٌ، فَقَدْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَيُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْزُونٍ لِمَا قُلْنَا، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا، فَجَازَتْ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَلَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ مُجَازَفَةً جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِلَحْمِ الشَّاةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ اللَّحْمَ يُقَابِلُ اللَّحْمَ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقَطِهَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ حَيَّتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ اللَّحْمِ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ السَّقَطِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute