أَسْلَمْتُ إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَرْعُهُ أَوْ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ عَدَدُهُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا فِي السَّلَمِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَيَلْزَمُ إعْلَامُ قَدْرِهِ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي الْمَكِيلِ بِمِكْيَالِ نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ، وَدَلَالَةً أَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا: إنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ، وَقَدْ يَرِدُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى بَعْضِهَا فَإِذَا رَدَّ الزَّائِفَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِس الرَّدِّ وَلَمْ يَتَجَوَّزْ الْمُسْتَحَقُّ يَنْفَسِخُ السَّلَمُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَالْمُسْتَحَقِّ وَيَبْقَى فِي الْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ بِقَفِيزٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ هَلَاكَ الْقَفِيزِ، فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الزَّيْفَ وَالِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَبِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا مُلْحَقٌ بِالصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ سُلِّمَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، وَإِعْلَامُ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ فَأَسْلَمَهُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ.
وَلَوْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ فَأَسْلَمَهُ فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ثَمَنِ رَأْسِ الْمَالِ، فَالثَّمَنُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَأَسْلَمَهُمَا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ.
(وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ إعْلَامَ الْقَدْرِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ وَاحِدًا وَقُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ انْقِسَامُهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ، وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَبْقَى قَدْرُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مُفْسِدَةٌ لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إعْلَامُ قَدْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَجَهَالَتُهُ لَا تَكُونُ ضَارَّةً.
وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ وَنَوْعُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَطُولُهُمَا وَاحِدٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا عِنْدَهُمَا) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ حَزْرٍ وَظَنٍّ فَكَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ ثَوْبٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ مُرَابَحَةً بِلَا خِلَافٍ، وَنَذْكُرُ دَلَائِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
؛ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي مَجْلِسِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ، وَالِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا لُغَةً وَشَرْعًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْلَمْتُ وَأَسْلَفْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَرُوِيَ «مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَدُّمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ، وَالْقَبْضُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضٍ، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute