الْعَقْدَ وَلَا يَتَقَدَّمُهُ فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ﵀.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهَذَا افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ جَائِزٌ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يَكُونُ دَيْنًا عَادَةً وَلَا تُجْعَلُ الْعَيْنُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ إلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ فَيَلْحَقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ فِي إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الْعَقْدِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَسَوَاءٌ قَبَضَ فِي أَوَّلِ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى قَامَا يَمْشِيَانِ فَقَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا.
جَازَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا لَهُ حُكْمُ الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبُولِ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ فَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَفِيهِ إسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ أَصْلًا لَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَسْخًا مَعْنًى، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ عَقْدُ السَّلَمِ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا قَبِلَ جَازَ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَرَاضِيهِمَا وَإِنَّهُ جَائِزٌ.
وَإِذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ وَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهُ إسْقَاطُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ.
وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أُعْطِيَ رَبُّ السَّلَمِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ، وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْأَرْدَإِ: جَازَ، لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفُ، فَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ وَأَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأَجْوَدِ، وَالْأَرْدَإِ اسْتِبْدَالًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْأَرْدَإِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ إذَا أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ ﵏: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ زُفَرُ لَا: يُجْبَرُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ رَبَّ السَّلَمِ فِي إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ مُتَبَرِّعٌ، وَالْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ التَّبَرُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْمِنَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ إعْطَاءَ الْأَجْوَدِ مَكَانَ الْجَيِّدِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يُعَدُّ فَضْلًا وَزِيَادَةً فِي الْعَادَاتِ، بَلْ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ فِي الْقَضَاءِ وَلَوَاحِقِ الْإِيفَاءِ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَجْمَلَ فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ.
(وَأَمَّا) الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بِجِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ مَنْقُولٌ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَأَمَّا) اسْتِبْدَالُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِجِنْسٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَ انْفِسَاخِ السَّلَمِ الْعَارِضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَيَجُوزُ اسْتِبْدَالُ بَدَلِ الصَّرْفِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لِوُجُودِ رُكْنِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَعَ شَرَائِطِهِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْجَوَازُ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ الْخَلَلِ فِي شَرْطِ عَقْدِ السَّلَمِ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ تُحَقِّقُهُ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ﵏ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ فَلَا يَصِحُّ.
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّوْثِيقِ يَحْصُلُ فِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَوِيلُ وَالْكَفِيلُ أَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ افْتَرَقَا الْعَاقِدَانِ بِأَنْفُسِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ