للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ.

وَأَمَّا عَلَى التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً، وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.

(وَأَمَّا) تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ، وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هُوَ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخَلِّي وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ، وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ، وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَبْضُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ.

وَأَمَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ، وَفِي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ، وَكَذَا فِي الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فَإِذَا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ، وَفِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ مِنْ مَكَانِهِ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ؛ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ.

(وَلَنَا) أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ لَهُ، وَقَالَ - اللَّهُ تَعَالَى - ﴿وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر: ٢٩] أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ: خَالِصًا لَهُ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنْ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ، فَأَمَّا الْإِقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فِيهَا قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أَوْ مَعْدُودًا مُعَادَدَةً، وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ فِي بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ، وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَكَذَا لَوْ اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ اتَّزَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَمْتَنِعَ بِهِ حَتَّى يَكِيلَهُ أَوْ يَزِنَهُ، وَلَا يُكْتَفَى بِاكْتِيَالِ الْبَائِعِ أَوْ اتِّزَانِهِ مِنْ بَائِعِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» .

وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُكَالَ» .

لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا تَثْبُتُ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ عَلَى التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ لَهُ تَقْلِيبُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَفِيمَا لَهُ مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً، وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مَعَ وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

(وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>