للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الِاسْتِحْلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحَالَةِ فِي الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ شَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْجُنُونِ بَلْ هُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ: فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي " رَدَدْتُ " وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْفَسِخُ بِقَوْلِهِ " رَدَدْتُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُتَّصِلًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يُفْتَقَرْ إلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَذَا بَعْدَهُ.

(وَلَنَا) أَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَالْإِقَالَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرِدَّ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ فَكَانَ الرَّدُّ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَبُولِ، وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَنْعُ تَمَامِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا، فَكَانَ الرَّدُّ كَالدَّفْعِ أَمَّا هَهُنَا إذْ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

بَيَانُ مَنْ تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ.

فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْخُصُومَةُ فِي الْبَيْعِ تَلْزَمُ الْبَائِعَ سَوَاءً كَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْخُصُومَةُ إلَّا الْقَاضِيَ أَوْ أَمِينَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي هَذَا الْبَابِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ إذَا كَانَ أَهْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ: فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا نَظَرًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَامْتَنَعَ عَنْ النَّظَرِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْعُهْدَةِ، فَكَانَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِيهِ وَالْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ.

وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ لَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ: فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنْفُسِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ، فَإِذَا زَالَ الْحَجْرُ بِالْإِذْنِ فَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ، وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمَوْلَى هُوَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى الْوَكِيلِ هَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:.

(إمَّا) أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى الْعَيْبِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى الْعَيْبِ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا مُلْجَأً إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْخُصُومَةِ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الِاضْطِرَارُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لَا يَرُدُّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ يَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَكَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ.

وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ خَاصَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الرَّدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَبِقَبُولِهِمَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ شَرِكَتِهِمَا تَلْزَمُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ.

فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرَّدُّ يَمْتَنِعُ بِأَسْبَابٍ (مِنْهَا) :

<<  <  ج: ص:  >  >>