للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ.

وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

(وَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ بَدَلَ الصُّلْحِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ، وَجُعِلَ لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ الْفَضْلُ، وَفِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْفَضْلِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَبَعْدَ الْعَفْوِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا لَفْظُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ، وَلَوْ احْتَمَلَهُ فَالْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَدْرَ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨] قَوْلُهُ ﷿: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ [البقرة: ١٧٨] أَيْ أُعْطِي لَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ١٧٨] أَيْ فَلْيَتَّبِعْ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ، إذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي بَابِ الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ عِوَضٌ عَنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ تَكُونُ رِبًا فَأَمَّا بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَعِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْبَدَلُ عَنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْمَالِ الْمُقَدَّرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَهُوَ الْفَرْقُ.

وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا فِي عَيْنٍ، فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ أَوْ أَنْكَرَ فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ كَمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَالْقَبْضَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ.

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُصَالِحِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَمَا لَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لَا يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنْ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا فَلَا تَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ إمَّا إسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا.

وَلَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي، فَلَا يُحْتَمَلُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ فَمَلَكَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِالصُّلْحِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا فَأَشْبَهَ الشُّفْعَةَ، وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَضَ فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ فَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةً عَلَى طَرِيقٍ، أَوْ كَنِيفِ شَارِعِهِ، أَوْ مِيزَابِهِ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْرَحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا فَإِذَا كَانَ نَافِذًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَارِّ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَقَطَ حَقُّ هَذَا الْوَاحِدِ بِالصُّلْحِ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّ الْقَلْعِ.

وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِيَ مَعَ هَذَا الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ الطَّرْحُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَأَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ رِشْوَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ هُنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِ السِّكَّةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>