مِلْكًا فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَكَذَا إسْقَاطُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِي مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ؛ جَازَ، وَيَطِيبُ لَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَكَانَ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكِهِ فَصَحَّ، فَأَمَّا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكٍ، وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَبَطَلَ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إذَا شَرَعَ إلَى الْهَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْهَوَاءِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ فَصَالَحَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحْلِفُهُ؛ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنْ الْيَمِينِ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا، وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ ﵊ فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إذًا لَكَ يَمِينُهُ» جَعَلَ الْيَمِينَ حَقَّ الْمُدَّعِي فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ شَرْعًا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَا الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى ثَابِتٌ فِي زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الْمَالِ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَالِافْتِدَاءِ عَنْ الْيَمِينِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا، وَقَالَ الْمُدَّعِي بِعْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ خَالَفَ الصُّلْحُ الْبَيْعَ، حَيْثُ جَازَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالِافْتِدَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ فَيَصِحُّ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ لَهُ لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الرِّقَّ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَجُوزُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْهُ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ إذْ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِالْبُضْعِ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ جَائِزًا، وَفِي حَقِّهَا بَدَلُ مَالٍ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلنَّصِّ.
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ ثَابِتًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا كَانَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهَا مِنْ الرَّجُلِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِهَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ لَا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصَالَحَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّمْلِيكِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ؛ فَهُوَ عَلَى، وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَلِفُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا خُصُومَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عِنْدَ الْقَاضِي مُعْتَدٌّ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ ثَانِيًا.
وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا حَلَفَ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ وُجُوبِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ قِمَارًا.
وَلَوْ أُودَعَ إنْسَانًا وَدِيعَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا مِنْهُ، فَقَالَ الْمُودَعُ: هَلَكَتْ، أَوْ قَالَ: رَدَدْتُهَا، وَكَذَّبَهُ الْمُودِعُ، وَقَالَ: اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا صُلْحٌ وَقَعَ عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَيَمِينٍ مُتَوَجِّهَةٍ، فَيَصِحُّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُدَّعِي مُنَاقَضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينُ الْمَالِكِ، وَقَوْلُ الْأَمِينِ قَوْلُ الْمُؤْتَمَنِ، فَكَانَ إخْبَارُهُ بِالرَّدِّ، وَالْهَلَاكِ إقْرَارًا مِنْ الْمُودِعِ، فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ لَا لِدَفْعِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا مُنْدَفِعَةٌ لِبُطْلَانِهَا بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ