للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصُّلْحُ.

وَلَوْ ادَّعَى الْمُودِعُ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَمْ يَقُلْ الْمُودَعُ إنَّهَا هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحَةٌ، وَالْيَمِينُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ فَصَحَّ الصُّلْحُ.

وَلَوْ طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَجَحَدَهَا الْمُودَعُ، وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِالْجُحُودِ إذْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ.

وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَطَعَنَ فِيهِ بِعَيْبٍ، وَخَاصَمَهُ فِيهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّا يَجُوزُ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ دُونَ الرَّدِّ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ صِفَةُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنْ عَيْبٍ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ عَنْ الْعَيْبِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ، فَصَحَّ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَنْ الْأَرْشِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْمَبِيعُ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى، وَالْخُصُومَةِ فِيهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ.

وَلَوْ صَالَحَ مِنْ الْعَيْبِ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ بِأَنْ كَانَ بَيَاضًا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ، فَانْجَلَى بَطَلَ الصُّلْحُ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ، وَهِيَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قَدْ عَادَتْ فَيَعُودُ الْعِوَضُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ.

وَلَوْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ، وَمِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْبِ إبْرَاءٌ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَإِسْقَاطٍ لَهَا، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهَا، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ إبْرَاءً عَنْ الْمَجْهُولِ لَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لِلْفِقْهِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْجَهَالَةَ لَعَيْنِهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَاَلَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطْعَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ بِعَيْبٍ، فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَيُصَالِحُهُ لِإِبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ.

وَلَوْ خَاصَمَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْعُيُوبِ نَحْوَ الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ، فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي غَيْرِهِ.

وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ امْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَرْشُ الْعَيْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَهْرُهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يُكَمَّلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ لَمَّا صَارَ مَهْرُهَا، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَإِذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَرْشِ عَيْبٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُعَاوَضَةٌ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَرَّةً يَصِحُّ مُعَاوَضَةً، وَمَرَّةً يَصِحُّ إسْقَاطًا، فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ.

وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، فَقَبَضَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، فَصَالَحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي ثَمَنِ الْآخَرِ دِرْهَمًا، فَالرَّدُّ جَائِزٌ، وَزِيَادَةُ الدِّرْهَمِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ، وَالْفَسْخَ بَيْعٌ جَدِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَأَمَّا الرَّدُّ فَفَسْخُ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَجَائِزٌ.

وَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، فَجَحَدَتْ فَصَالَحَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَتُجْعَلُ الْمِائَةُ مِنْ الزَّوْجِ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ.

وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَلْفًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ الْأَلْفَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهَا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَالْأَلْفُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ أَخْذُ الْعِوَضُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَعْطَيْتُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ وَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَجَحَدَتْ، فَقَالَ: أَزِيدُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقْرِي لِي بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ؛ جَازَ، وَلَهَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ، وَيُحْمَلُ إقْرَارُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَاَللَّهُ ﷿

<<  <  ج: ص:  >  >>