للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَقٌّ رُوِيَ مُنَوَّنًا وَمُضَافًا، فَالْمُنَوَّنُ هُوَ أَنْ تَنْبُتَ عُرُوقُ أَشْجَارِ إنْسَانٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُهَا حَشِيشًا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ» وَلِأَنَّ الْمَوَاتَ غَنِيمَةٌ فَلَا بُدَّ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ غَنِيمَةً اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ، وَالْمَوَاتُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَكَانَتْ كُلُّهَا غَنَائِمَ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا.

(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ جَمَاعَةً بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِذَلِكَ النَّظْمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرَ قَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» حَتَّى لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَالِ الْإِذْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ.

وَلَوْ حَجَرَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ أَحْجَارٍ أَوْ خَطٍّ حَوْلَهَا يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ غَيْرَهُ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ فَلَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ النَّبِيُّ «مِنِّي: مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ» وَعَلَى هَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَزَلَ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ رِبَاطٍ صَارَ أَحَقَّ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ أَنْ يُزْعِجَهُ عَنْهَا.

وَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِهَا فَلَا يُقْطِعُهَا الْإِمَامُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا الْمُتَحَجِّرُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْمُرْهَا.

(وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ أَرْضِ الْمَوَاتِ إذَا مُلِكَتْ فَيَخْتَصُّ بِهَا حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْحَرِيمِ، وَالثَّانِي: الْوَظِيفَةُ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الْحَرِيمِ، وَالثَّانِي: فِي قَدْرِهِ.

(أَمَّا) أَصْلُهُ: فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ لَهَا حَرِيمٌ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ لَهَا حَرِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ أَرْضٍ حَرِيمًا.

(وَأَمَّا) النَّهْرُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ.

(وَأَمَّا) تَقْدِيرُهُ: فَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ نَطَقَتْ السُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِالْإِجْمَاعِ نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ النَّبِيُّ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَأَمَّا حَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعِنْدَهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» .

(وَجْهُ) قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إحْيَاءُ الْحَرِيمِ، وَكَذَا إذْنُ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ الْحَرِيمَ مَقْصُودًا إلَّا أَنَّ دُخُولَ الْحَرِيمِ لِحَاجَةِ الْبِئْرِ إلَيْهِ، وَحَاجَةُ النَّاضِحِ تَنْدَفِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَحَاجَةِ الْعَطَنِ فَبَقِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي بِئْرٍ خَاصٍّ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ ذَلِكَ.

(وَأَمَّا) حَرِيمُ النَّهْرِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ النِّصْفُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَالنِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قَدْرُ جَمِيعِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَدْرُ جَمِيعِهِ.

(وَأَمَّا) النَّهْرُ إذَا حُفِرَ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَرِيمًا بِلَا خِلَافٍ لِمَا قُلْنَا.

(وَأَمَّا) الثَّانِي: حُكْمُ الْوَظِيفَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَإِنْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ كَيْفَ مَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ -.

<<  <  ج: ص:  >  >>