حُرَّيْنِ وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا وَإِنَّمَا حَدَثَ الرِّقُّ فِي الْبَعْضِ شَرْعًا بِعَارِضِ الِاسْتِيلَاءِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ وَهُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَحْرَارِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ أَمَةٍ، لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ انْعِقَادِ عِلَّةٍ تُوجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَمْ يُعْرَفْ إحْصَانُهَا لِانْعِقَادِ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ هَذَا الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَلَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ بَعْدُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَضَرْبِ قَاذِفِهِ الْحَدَّ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُ إلَّا بِظَاهِرِ الْحَالِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ كَاذِبًا فَصَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْهِبَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ حَتَّى لَا تَنْفَسِخَ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَنْفَسِخُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِقِّهِ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ فَإِذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ حَقَّ الْغَيْرِ كَانَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَيُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُقِرُّ فِي إقْرَارِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَمُتَّهَمٌ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ وَأَمَّا حَالُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ مَاتَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ يَكُونُ ذِمِّيًّا تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ كَمَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ يَكُونُ ذِمِّيًّا.
وَلَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْفِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنْ الْأَصْلِ وَاعْتَبَرَ الْمَكَانَ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ إلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ إلَى الْوَاجِدِ أَوْ إلَى الْمَكَانِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا، وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا ظَاهِرًا، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ أَوْلَى فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إسْلَامُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا حُكِمَ بِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ رِدَّتُهُ فَلَا يُقْتَلُ وَأَمَّا حَالُهُ فِي النَّسَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ نِسْبَةَ الْمُلْتَقَطِ أَوْ عِتْقَهُ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنَّ الْتِقَاطَهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى سَيِّدَنَا عَلِيًّا ﵁ بِلَقِيطٍ فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ وَلَأَنْ أَكُونَ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتَ أَنْتَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، عَدَّ جُمْلَةً مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَقَدْ رَغَّبَ فِي الِالْتِقَاطِ وَبَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ حَيْثُ فَضَّلَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّدْبِ إلَيْهِ.
وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ لَا حَافِظَ لَهَا بَلْ هِيَ فِي مَضْيَعَةٍ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا إحْيَاءً لَهَا مَعْنًى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢] وَمِنْهَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَخْذِ سَبَقَتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ إلَيْهِ وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَقَدْ قَالَ ﵊ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَالُهُ فَيَكُونُ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute