طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَكِسْوَتَهُ، كَائِنًا مَنْ كَانَ قَرِيبًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا، مِنْ وَلَدِهِ، وَامْرَأَتِهِ، وَخَدَمِهِ، وَأَجِيرِهِ، لَا الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِيَدِهِ مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً، كَشَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ، وَالْعِنَانِ، وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَعَبْدِهِ الْمَعْزُولِ عَنْ بَيْتِهِ.
هَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ إلَّا بِيَدِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَيْنِهِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ سَائِرُ الْأَجَانِبِ.
(وَلَنَا) : أَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْتَزِمُ بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ عَادَةً؛ إلَّا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَبِيَدِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِمْ أَيْضًا، فَكَانَ الْحِفْظُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلًا تَحْتَ الْعَقْدِ، دَلَالَةً، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْوَدِيعَةَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَالِكِ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنًى، فَمَا دَامَ فِي أَيْدِيهِمْ؛ كَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا لِعُذْرٍ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا رَضِيَ بِيَدِهِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ، فَإِذَا دَفَعَ؛ فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا، فَتَدْخُلُ الْوَدِيعَةُ فِي ضَمَانِهِ إلَّا إذَا كَانَ عَنْ عُذْرٍ، بِأَنْ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ، أَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ، فَخَافَ الْغَرَقَ؛ فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ، فَكَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ، فَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِعُذْرٍ.
وَلَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَهُ، فَضَاعَتْ فِي يَدِ الثَّانِي - فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا عَلَى الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ.
(وَجْهُ قَوْلِهِمَا) : أَنَّهُ وَجَدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ، أَمَّا - الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، كَمُودَعِ الْغَاصِبِ مَعَ الْغَاصِبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَ الْوَدِيعَة بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مَالَهُ نَفْسَهُ إيَّاهُ فَهَذَا مُودَعٌ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ، كَأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ، لِمَا عُلِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِيَدٍ مَانِعَةٍ، بَلْ هِيَ يَدُ حِفْظٍ وَصِيَانَةِ الْوَدِيعَةِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَالِكِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١] .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ لَهُ، فَكَانَ مُحْسِنًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ، فَبَقِيَ الْمُودَعُ الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَلَوْ أَوْدَعَ غَيْرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَ عَنْ عُذْرٍ، لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ ﵀؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ، فَدَعْوَى الضَّرُورَةِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ، يُرِيدُ بِهِ دَفْعَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، هَذَا إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي؛ فَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهَا، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِوُقُوعِهِ إعْجَازًا لِلْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا الدَّفْعُ إلَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْفَاظِ دُونَ الْإِعْجَازِ، إلَّا أَنَّهُ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْإِعْجَازِ شَرْعًا فِي حَقِّ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ صُورَةً؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْإِعْجَازِ، فَكَانَ الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، وَلَمْ يَرْجِعْ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مُودِعِ الْغَاصِبِ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ إنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ، أَوْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوَدَعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْقِسْمَةِ اقْتَسَمَاهُ، وَحَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُودَعَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَقْد اسْتَحْفَظَهُمَا جَمِيعًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ فِي حِفْظِهِمَا جَمِيعًا، وَلَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ لِيَكُونَ النِّصْفُ فِي يَدِ هَذَا، وَالنِّصْفُ فِي يَدِ ذَاكَ