وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفَيْنِ وَآخَرُ بِأَلْفٍ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ، وَاخْتِلَافُ الْبَدَلَيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدَيْنِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِعَقْدٍ غَيْرِ عَقْدِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ لَا دَعْوَى الْعَقْدِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُقْبَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمُدَّةِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ، فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - حَتَّى أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكَرُ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، أَوْ فِي الْعَتَاقِ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ وَلِيِّ الْقِصَاصِ تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الْعَبْدِ أَوْ الْقَاتِلِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، فَلَا تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ.
(وَأَمَّا) اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقَارِيرِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَفَاعِيلِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ لِسَمَاعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ مَكَانَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، فَاخْتِلَافُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الشَّهَادَتَيْنِ فَيَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ قَرْضَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَرْضِ وَالْآخَرُ عَلَى الْقَرْضِ وَالْقَضَاءِ، يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْضِ وَلَا يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ﵀ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِالْقَرْضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَرْضِ لَكِنَّ الَّذِي شَهِدَ بِالْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ، فَبَقِيَ عَلَى الْقَرْضِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَقْضِي بِالشَّهَادَةِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقَضَاءِ لَا فِي الْقَرْضِ، بَلْ اتَّفَقَا عَلَى الْقَرْضِ فَيُقْضَى بِهِ، وَقَوْلُهُ: شَاهِدُ الْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ قَرَّرَ شَهَادَتَهُ عَلَى الْقَرْضِ؛؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَرْضِ بَعْدَ الْقَرْضِ يَكُونُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ﵀ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا - أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ جُبِلْنَ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَالْإِبْدَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، كَالْكَفَالَاتِ وَالْوَكَالَاتِ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ فَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ فِيهَا بِشَرْطٍ، وَالْأُنُوثَةُ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ ﵎ فِي بَابِ الْمُدَايَنَةِ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا ﵃: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ﵁ " شَرْطٌ " (وَجْهُ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute