للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا - أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ضَرْبٍ جَارِحٍ؛؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْجَلْدِ، فَلَا يَكُونُ الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ وَالثَّانِي - أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ إلَيْهِ.

وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى التَّسْبِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ هَهُنَا فَلَا شَيْءَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ.

وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمْ، فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ؛؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ مِنْ الِابْتِدَاءِ قَذْفًا.

(وَلَنَا) أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا شَهَادَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِالنَّصِّ لِوُجُودِ الرَّمْيِ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا، فَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ أَوْ رِدَّتَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِمْضَاءِ، فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ؛؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ.

فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا.

وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا مِنْ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا غَرِمَ الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ؛؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ، هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ؛؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ اثْنَانِ ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ الْمَرْجُومُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ.

وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِي - وُجُوبُ التَّعْزِيرِ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ، وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ؛؛ لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ أَوْ مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ النَّاسُ مِنْهُ فَيُقَالُ: " هَذَا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ أَسْوَاطٍ، هَذَا إذَا تَابَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: " إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ " فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ.

؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَشْهَرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>