للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَيْرًا مِنْ الزُّنَاةِ.

وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَى بِكِ زَوْجُكِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ - فَهُوَ قَاذِفٌ؛ فَإِنَّهُ نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا، أَوْ جَامَعَكِ حَرَامًا، أَوْ فَجَرَ بِكِ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا، أَوْ بَاضَعْتَهَا أَوْ جَامَعْتَهَا حَرَامًا - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَذْفُ بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ لَهُ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَقْذِفْ.

وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فَقَالَ - لَا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ بَلَّغَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَالَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُلْ لَكَ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عَنْ قَذْفِ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا لُوطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَسَبَهُ إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَهُوَ اللِّوَاطُ، وَلَوْ أَفْصَحَ وَقَالَ: أَنْتَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَمَّى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.

وَعِنْدَهُمَا هُوَ قَاذِفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: صَدَقْتَ - يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ مِنْهُ.

وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ - يُحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَخُوك زَانٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، بَلْ أَنْتَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ "؛ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ - فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَدِّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، سَوَاءٌ قَالَ فِي غَضَبٍ أَوْ رِضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ، فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا أَبُوكَ، أَوْ قَالَ: لَسْتَ أَنْتَ ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ، إنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ - فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ - فَلَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَيْ أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ، أَوْ أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا، أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ - أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا فِي حَالَةِ الرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، فَعَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ كَانَ يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ؛ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ كَانَ يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا؛ لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ، إذْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَنَخْوَةٍ، كَانَ يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَإِذَا أَمْسَى خَلَعَهُ وَمَزَّقَهُ؛ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ، فَيُحَكَّمُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ؛ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ؛ فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ لِخَالِهِ، أَوْ لِزَوْجِ أُمِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا.

وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمِّ، قَالَ اللَّهُ ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة: ١٣٣] وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ، وَقَالَ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يوسف: ١٠٠] وَقِيلَ: إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمًّا - كَانَ الْخَالُ أَبًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: ٤٥] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ بِابْنٍ لِفُلَانٍ لِجَدِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: يَا نَبَطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، لِلْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَكُونُ قَذْفًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: يَا نَبَطِيُّ؛ لَمْ يَقْذِفْهُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، كَمَنْ قَالَ لِلْبَلَدِيِّ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَعْوَرِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا، كَمَا إذَا قَالَ لِلْبَصِيرِ: يَا أَعْمَى، ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَالثَّانِي

<<  <  ج: ص:  >  >>