النَّبَّاشُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ الْقُبُورِ فِي قَوْلِهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عَنْهُ أَشَدَّ النِّفَارِ، فَكَانَ تَافِهًا، وَلَئِنْ كَانَ مَالًا فَفِي مَالِيَّتِهِ قُصُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ مَا يُنْتَفَعُ بِلِبَاسِ الْحَيِّ، وَالْقُصُورُ فَوْقَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ تَنْفِي وُجُوبَ الْحَدِّ، فَالْقُصُورُ أَوْلَى، رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ سَرِقَةُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ، وَلَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ، بَلْ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ لَا يُعَدُّ مَالًا، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ، وَالْبُقُولِ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً، مُبَاحُ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَانَ مَالًا، فَيُقْطَعُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ، وَالْإِمْسَاكَ إلَى زَمَانِ حُدُوثِ الْحَوَائِجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَقَلَّ خَطَرُهَا عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَتْ تَافِهَةً.
وَلَوْ سَرَقَ تَمْرًا مِنْ نَخْلٍ، أَوْ شَجَرٍ آخَرَ مُعَلَّقًا فِيهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ اسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَأَحْرَزُوهُ، أَوْ هُنَاكَ حَائِطٌ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ لَا يُعَدُّ مَالًا؛ وَلِأَنَّهُ مَا دَامَ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ لَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» قَالَ مُحَمَّدٌ: الثَّمَرُ مَا كَانَ فِي الشَّجَرِ، وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَإِنْ كَانَ قَدْ جَذَّ الثَّمَرَ، وَجَعَلَهُ فِي الْجَرِينِ، ثُمَّ سُرِقَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا مُطْلَقًا قَابِلًا لِلِادِّخَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ» فَإِذَا آوَاهُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ مَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ جَفَافُهُ عَادَةً.
فَإِذَا اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ مَالًا مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا كَانَتْ فِي سُنْبُلِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَا دَامَتْ فِي السُّنْبُلِ لَا تُعَدُّ مَالًا، وَلَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهَا أَيْضًا.
(وَأَمَّا) الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ الَّتِي تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀: أَنَّهُ يُقْطَعُ فِيمَا يَتَمَوَّلُ النَّاسُ إيَّاهَا؛ لِقَبُولِهَا الِادِّخَارَ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّفَاهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ رَطْبِ الْفَاكِهَةِ وَيَابِسِهَا، وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْحَائِطِ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّخْلَةِ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ، فَكَانَ تَافِهًا، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: إنَّهُ النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَيُقْطَعُ فِي الْحِنَّاءِ، وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَلَمْ يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، وَالصَّفِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ فِي السَّمَكِ طَرِيًّا كَانَ، أَوْ مَالِحًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا لِتَفَاهَتِهِ، وَلِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَى الطَّرِيِّ مِنْهُ، وَلِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ تَافِهًا، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ، وَالدِّبْسِ لِعَدَمِ التَّفَاهَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِمَا الْفَسَادُ، وَلَا قَطْعَ فِي: عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ تَافِهًا كَاللَّبَنِ، وَلَا قَطْعَ فِي الطِّلَاءِ وَهُوَ الْمُثَلَّثُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَتِهِ، وَفِي كَوْنِهِ مَالًا، فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ.
وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا، وَيُقْطَعُ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ، وَلَا تَفَاهَةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ، وَاللَّآلِئُ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ، وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ لَا عَلَى إبَاحَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَغَيْرِهَا، وَيُقْطَعُ فِي الْحُبُوبِ كُلِّهَا، وَفِي الْأَدْهَانِ، وَالطِّيبِ كَالْعُودِ، وَالْمِسْكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّفَاهَةِ، وَيُقْطَعُ فِي الْكَتَّانِ، وَالصُّوفِ، وَالْخَزِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُقْطَعُ فِي جَمِيعِ الْأَوَانِي مِنْ الصُّفْرِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ النُّحَاسَ نَفْسَهُ أَوْ الْحَدِيدَ نَفْسَهُ، أَوْ الرَّصَاصَ لِعِزَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَخَطَرِهَا فِي أَنْفُسِهَا: كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا مُطْلَقًا فَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ مِنْ مُسْلِمٍ، مُسْلِمًا كَانَ السَّارِقُ، أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ.
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا لَا يُقْطَعُ