للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ الْمَسْرُوقُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ وَقَدْ سَقَطَ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ حَتَّى قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ، وَلَا يَمِينَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، إلَّا أَنَّا هَهُنَا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْيَمِينِ وَقَدْ فَاتَتْ؛ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ فَكَانَ قَطْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ السَّرِقَةِ فِي يَدِهِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ.

وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ، وَقَالَ الْخَوَارِجُ: تُقْطَعُ مِنْ الْمَنْكِبِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ» ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ فَقَالَ: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ وَالْمُتَوَلِّي لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أَوْ مَنْ وَلَّوْهُمْ مِنْ الْقُضَاةِ، وَالْحُكَّامِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ: مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي، وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ: شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ؛ فَسَقَطَ الْقَطْعُ، وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ، أَوْ قَالَ: هَذَا لِي دُرِئَ الْقَطْعُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّرِقَةِ.

ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الشَّرِيكِ؛ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَقَالَ كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ، وَهَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ: إنَّهُ يُحَدُّ الرَّجُلُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا عَدَمُهُ مِنْ جَانِبِهِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، فَعَدَمُ السَّرِقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي السَّرِقَةِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فِعْلُ السَّرِقَةِ، وَعَدَمُ الْفِعْلِ مِنْهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، بِخِلَافِ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ تَجْحَدُ؛ إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُودُ مِنْ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا) رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ عِنْدَهُمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ السَّرِقَةَ حِينَ وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ؛ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا، وَقَدْ وُجِدَتْ.

(وَمِنْهَا) مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَحْوُ مَا إذَا وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>