الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَهَبَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَإِمَّا أَنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ ﵊: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» فَدَلَّ أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُسْقِطُ، وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ.
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وَقَدْ تَمَّتْ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا كَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْخُصُومَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْهِبَةِ، وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ مِنْ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلسَّارِقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقْضَ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُقْضَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لَمْ يَمْضِ.
وَلِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ؛ إذَا كَانَ فِي الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ، وَهَهُنَا فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ " هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ "، وَقَوْلُهُ " هُوَ " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ، وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: وَهَبْت الْقَطْعَ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالْمَسْرُوقِ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فِي الزِّنَا؛ فَيُحَدُّ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ وَغَيْرُهَا، فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ فِي ضَمَانِ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي يَدِ السَّارِقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِمَّا أَنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ ﵊ قَالَ «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» .
وَرُوِيَ «أَنَّهُ ﵊ رَدَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ ﵁ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ السَّارِقَ فِيهِ» ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ.
وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فِي يَدَيْ الْقَابِضِ، وَكَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَطْعِ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا عَلَى السَّارِقِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ، فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ، وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ، وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ، وَيَرُدُّ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ، وَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ، يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، أَوْ قِيمَتَهُ، وَهَهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْقَطْعُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا؛ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ، وَلَا