الْعَجَمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، أَوْ طَمَعٍ فِي ذَلِكَ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَمَّلُوا فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَيَنْظُرُوا فِيهَا فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ، وَتَقْبَلُهُ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَيَرْغَبُونَ فِيهِ، فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ، لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ، بَلْ يَعُدُّونَ مَا سِوَى ذَلِكَ سُخْرِيَةً وَجُنُونًا، فَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا عَلَيْهَا فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَمُشْرِكُو الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إلَّا الْإِسْلَامُ، أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ ﵎ ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ فِي الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ، فَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ فَلَاحِهِ، فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لَهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا، فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا (مِنْهَا) عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٢٩] إلَى قَوْلِهِ ﷿ ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] نَهَى ﷾ إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ الْإِبَاحَةُ، تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً.
(وَمِنْهَا) عِصْمَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ؛ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا.
وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْعَقْلُ (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ (وَمِنْهَا) الذُّكُورَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ﷾ أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الْآيَةَ وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ.
(وَمِنْهَا) الصِّحَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ، وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ.
(وَمِنْهَا) السَّلَامَةُ عَنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَتَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ؟ وَكَذَا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ.
(وَأَمَّا) أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَعَدَمُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَلَمْ يَزْرَعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ، وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ، وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْجِزْيَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الصُّلْحُ، وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، كَمَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ