للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ، بِأَنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: أَغْنِيَاءُ، وَأَوْسَاطٌ، وَفُقَرَاءُ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَأْيًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ، فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْوَسَطِ، وَالْفَقِيرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ، وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ وَقِيلَ: مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) الْإِسْلَامُ (وَمِنْهَا) الْمَوْتُ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٢٩] إلَى قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] أَبَاحَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ، فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِوَضُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ، كَالْقِتَالِ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الَّذِي فِيهِ تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقِتَالُ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَقَوْلُهُ: إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ مَا وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ مِنْ الدُّنْيَا، خَارِجٌ عَنْ الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ فَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ، مَعَ مَا أَنَّهَا إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ، فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ.

(وَمِنْهَا) مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ، وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ، حَتَّى إنَّهُ إذَا مَضَى عَلَى الذِّمَّةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ مِنْهُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى مَا دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَمْ لَا؟ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ، وَهُوَ خَرَاجُ الْأَرْضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ، فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ كَذَا هَذَا وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بِهَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ.

وَأَمَّا فِي حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>