للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِهِ ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] وَكَذَا الصَّحَابَةُ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا تُسْتَرَقُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ، فَكَانَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَكَذَا الصَّحَابَةُ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حَتَّى قِيلَ: إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ.

وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ، وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الْمَرْأَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَا تَرْتَفِعُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ فَسَدَ النِّكَاحُ.

وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الدَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ أَمْوَالُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، أَمْ بِالرِّدَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا عَلَى التَّوَقُّفِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِالرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمِلْكُ فِي أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَعُقْدَةُ تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَوَازُهَا جَوَازُ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بِيَدِهِ، فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عَنْ الْقَتْلِ، وَالْمَرِيضُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرِّدَّةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ.

وَالْقَتْلُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ، فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ الرِّدَّةُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَلُ، فَيَبْقَى مَالُهُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فِيهِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ التَّوَقُّفُ فِي الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا مِنْ الْأَصْلِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ سَبَبًا لِلزَّوَالِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ زَائِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ سَبَبِهِ، فَلَمْ يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ.

فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً ضَرُورَةً وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا، إنَّهُ يَثْبُتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>