للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ بِالْجِمَاعِ وَفِي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ طَائِعًا فِي الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ وَهُمَا مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ لَكَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْمُكْرِهَ شَيْئًا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا جَعْلُ الْمُوَسَّعِ مُضَيَّقًا، وَالثَّانِي جَعْلُ مَا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ؟ وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا لَمْ يَقْرَبْ كَانَ تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ.

وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجْزِي عَنْ التَّكْفِيرِ.

وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] وَلِقَوْلِهِ بِهِ أَيْ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْقِصَاصِ هُوَ الْعَفْوُ وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] فَقَدْ نَدَبَ إلَى الْعَفْوِ عَامًّا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْعَفْوِ إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُوجِبُ بُطْلَانَهَا أَصْلًا (وَوَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وَالْإِكْرَاهُ يَسْلُبُ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ .

(وَلَنَا) ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أَوْ الرِّبَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا الْفَاسِدُ لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ، وَانْعِدَامُ شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ مِنْ حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ، وَهُنَا الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

إمَّا إنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ وَإِمَّا أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ.

وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فَإِذَا سَلَّمَ طَائِعًا فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي، فَكَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْهُ طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هَذَا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي.

وَالثَّانِي: أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْهُ إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ إكْرَاهًا عَلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>