للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تُزَوَّجَ، كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا أَيِّمٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ لِمُشَارَكَتِهَا الْأَبْكَارَ عِنْدَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ السُّكُوتُ مَقَامَ الرِّضَا نُطْقًا فِي حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ السُّكُوتِ، وَهُوَ الْحَيَاءُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ ثَيِّبٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ، أَوْ لَمْ تَبْلُغْ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفَقِيرَةُ وَالْغَنِيَّةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ.

وَقَالَ اللَّهُ ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ [التحريم: ٥] أَدْخَلَ فِيهِ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالْفَقِيرَاتِ وَالْغَنِيَّاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِيمَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ ، وَأَبْكَارًا فَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى ثَيِّبَاتٍ فَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّيِّبَاتِ بِالْأَبْكَارِ، وَهُنَّ اللَّاتِي لَمْ يُجَامَعْنَ، فَكَانَتْ الثَّيِّبَاتُ اللَّاتِي جُومِعْنَ لِتَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ، وَلَا تُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا زَوْجَهَا، بِخِلَافِ الْأَرْمَلَةِ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ كَذَا تَقْتَضِي، فَيُتَّبَعُ فِيهِ وَضْعُ أَرْبَابِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إطْلَاقٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلِازْدِوَاجِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لِأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ جُومِعَتْ، وَلَيْسَ فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَالْمُتَمَلِّكُ مَجْهُولٌ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ بِكْرٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَجُوزُ إذَا كُنَّ مَحْصُوَّاتٍ لَمَا قُلْنَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ الْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ إذْ الْبِكْرُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ، وَلَا غَيْرِهِ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ ، وَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الذَّكَرِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الْمَجَازُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، أَوْ كَانَ لَهَا حَقِيقَةً، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْخَلْقِ عَلَى الْأُنْثَى، فَصَارَ بِحَالٍ لَا تَنْصَرِفُ أَوْهَامُ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ إلَّا إلَى الْأُنْثَى، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْمَجَازِ، وَلَوْ كَانَتْ عُذْرَتُهَا زَالَتْ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْوَثْبَةِ، أَوْ بِذَرُورِ الدَّمِ تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُجَامَعْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ مُحَمَّدًا قَالُوا إنَّ هَذِهِ أَيْضًا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الَّتِي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِفُجُورٍ لَا تَكُونُ بِكْرًا، وَلَا تَكُونُ لَهَا، وَصِيَّةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِي : إنَّ هَذَا قَوْلَهُمَا (فَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهَا بِكْرٌ، وَتَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ حَقِيقَةً لِعَدَمِ حَدِّ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا تُزَوَّجُ تَزَوُّجَ الْأَبْكَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَلَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَاتِهِ، أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ، أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ سَوَاءٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْأَقْرَبِ، فَالْأَقْرَبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - يُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَجَمْعُ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَى مَنْ اتَّصَلَ بِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَبِسَيِّدِنَا الْعَبَّاسِ لَا إلَى مَنْ فَوْقَهُمَا مِنْ الْآبَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: اعْتِبَارُ جَمْعِ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ لَفْظَ ذَوِي: لَفْظُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي بَابِ الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ أُلْحِقَتَا بِالثَّلَاثِ، فَصَاعِدًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، وَحَجْبُ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ عَلَى مَا مَرَّ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ اسْتَحَقَّ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كُلَّ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذِي لَيْسَ بِلَفْظِ جَمْعٍ.

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلٌ، وَالْوَلَدَ فَرْعُهُ وَجُزْؤُهُ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَرِيبِ.

وَقَالَ اللَّهُ ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] عَطَفَ الْأَقْرَبَ عَلَى الْوَالِدِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>