يُقَدَّمَانِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ وُجُوبِهِمَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَالْكَفَّارَاتُ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ تُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِين، وَالْوَاجِبُ ابْتِدَاءً أَقْوَى فَيُقَدَّم، وَالْكَفَّارَاتُ مُتَقَدِّمَة عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ، وَالْكَفَّارَاتُ فَرَائِضُ، وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَكَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا وَاجِبَةً عِنْدَنَا لَكِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهَا، وَالْأُضْحِيَّةَ وُجُوبُهَا مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْمُتَّفَقُ عَلَى الْوُجُوبِ أَقْوَى فَكَانَ بِالْبِدَايَةِ أَوْلَى، وَكَذَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِأَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ.
وَالثَّابِتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ.
وَقَالُوا: إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَنْذُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ ﵎ ابْتِدَاءً، وَالْمَنْذُورُ بِهِ، وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ أَيْضًا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ فَتُقَدَّمُ الصَّدَقَةُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ: أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩] ، وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ ﷿ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷾ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة: ٧٥] ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [التوبة: ٧٦] ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ٧٧] ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِيَقِينٍ وَفِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةَ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ.
وَالْأُضْحِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَهُمَا، وَالشَّافِعِيِّ ﵀، وَالْوَاجِبُ، وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ أَوْلَى مِنْ النَّافِلَةِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ تَقْدِيمَهَا عَلَى النَّافِلَةِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيُقَدَّمُ بِدَلَالَةِ حَالَةِ التَّقْدِيمِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ إعْتَاقٌ مُنَجَّزٌ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَوْ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ، وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ.
(وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنْ كَانَ إعْتَاقًا وَاجِبًا فِي كَفَّارَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْوَصَايَا الْمُتَنَفَّلِ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْإِعْتَاقِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخ كَمَا يَلْحَقُ سَائِرَ الْوَصَايَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ مِثْلَ سَائِرِ الْوَصَايَا فَلَا تُقَدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ الْمُنَجَّزِ فِي الْمَرَضِ، وَالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُمَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا.
وَإِنْ كَانَتْ الْوَصَايَا بَعْضُهَا لِلَّهِ ﷾ وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ، فَإِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ يَتَضَارَبُونَ بِوَصَايَاهُمْ فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِبَادَ فَهُوَ لَهُمْ لَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَا نُبَيِّنُ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ ﵎ يَجْمَعُ ذَلِكَ فَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْفَرَائِضِ، ثُمَّ بِالْوَاجِبَاتِ، ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوَصَايَا لِلَّهِ ﵎ وَصِيَّةٌ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مَعَ الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ، وَيَجْعَلُ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرْبِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ، فَإِنْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِزَيْدٍ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَهْمٌ لِلْحَجِّ، وَسَهْمٌ لِلزَّكَاةِ، وَسَهْمٌ لِلْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ غَيْرُ الْأُخْرَى فَتُفْرَدُ كُلُّ جِهَةٍ بِسَهْمٍ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: جِهَاتُ الْقُرَبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ طَلَبُ مَرِضَاتِ اللَّهِ ﵎ وَابْتِغَاءِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ، وَالْقُرَبِ بِسَهْمٍ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَهُوَ ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ ﷿ وَطَلَبُ مَرْضَاتِهِ لَكِنَّ الْجِهَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِسَهْمِهِ، وَإِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute