كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكُلِّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ ﷾ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْجِهَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا اُعْتُبِرَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا هَذَا؛ إذْ كَانَتْ الْوَصَايَا كُلّهَا لِلَّهِ ﵎ أَوْ بَعْضهَا لِلَّهِ ﵎ وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ.
(فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الثُّلُثِ لَمْ يُجَاوِزْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا قَدْرَ الثُّلُثِ.
(وَإِمَّا) إنْ جَاوَزَتْ، فَإِنْ لَمْ تُجَاوِزْ بِأَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ، وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ فَإِنَّهُمْ يَتَضَارَبُونَ فِي الثُّلُثِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الثُّلُثِ.
وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِرُبْعِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسُدُسِ الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمْ بِقَدْرِ فَرِيضَتِهِ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا يُقَدَّم بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ هَذِهِ الْوَصَايَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْإِعْتَاقُ الْمُنَجَّزُ فِي الْمَرَض، أَوْ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ أَوْ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فِي الْمَرَضِ فَيُقَدَّمُ هُوَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا الَّتِي هِيَ لِلْعِبَادِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ فَيَبْدَأُ بِذَلِكَ قَبْلَ كُلِّ وَصِيَّةٍ ثُمَّ يَتَضَارَبُ أَهْلُ الْوَصَايَا فِيمَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْض فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُرَجَّحِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا كُلَّهَا اسْتَوَتْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ سَبَبِ صَاحِبِهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا اسْتِوَاءَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي مَوَاضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ، وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْمُحَابَاةُ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ؛ إذْ هُوَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْبَيْعُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعَقْدِ الضَّمَانِ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ، وَالْمُحَابَاة وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: إنْ كَانَتْ الْمُحَابَاةُ قَبْلَ الْعِتْقِ يَبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ، وَإِلَّا اسْتَوَيَا هَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَبْدَأ بِالْعِتْقِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى مِنْ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْمُحَابَاةُ تَحْتَمِلُ، وَفِي بَابِ الْوَصَايَا يُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَسَعُ الْكُلَّ، وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعِتْقُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي الذِّكْرِ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ فِي الذِّكْرِ يُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، وَلَا اسْتِوَاءَ هَهُنَا لِمَا بَيَّنَّا، فَبَطَلَ التَّرْجِيحُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀: أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَالْعِتْقُ تَبَرُّعٌ مَحَضٌ، فَلَا يُزَاحِمُهَا.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْعِتْقِ تَقَدَّمَتْ فِي الذِّكْرِ أَوْ تَأَخَّرَتْ إلَّا أَنَّ مُزَاحَمَةَ الْعِتْقِ إيَّاهَا حَالَةَ التَّأْخِيرِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ التَّعَارُضِ حَالَةَ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا: إنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي فَإِنَّ مَنْ بَاعَ مَالَهُ بِالْمُحَابَاةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ مِنْ جِهَة الْمُوصِي، وَهُوَ الْمُعْتَقُ، وَالْبَائِعُ، فَإِذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْمُحَابَاةِ تَرَجَّحَتْ بِالْبِدَايَةِ لِكَوْنِ الْبِدَايَةِ بِهَا دَلِيلَ الِاهْتِمَامِ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْعِتْقِ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِهِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهَا عَلَى الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ، فَسَقَطَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ أَصْلُ التَّعَارُضِ بِلَا تَرْجِيحٍ، فَتَقَعُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ الْمُحَابَاةِ، وَالْعِتْقِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فِي نَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالشَّرْطِ، وَالْإِقَالَةِ؛ إذْ هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُهُ رَأْسًا، فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْمُحَابَاةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا (وَمِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: إنَّ عَدَمَ احْتِمَالِ الْعِتْقِ لِلْفَسْخِ إنْ كَانَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ عَلَى الْمُحَابَاةِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِي تَرْجِيحًا عَلَى الْعِتْقِ، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ، فَتُرَجَّحُ الْمُحَابَاةُ بِالْبِدَايَةِ، وَإِذَا لَمْ يَبْدَأْ بِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ التَّرْجِيحُ، فَبَقِيَتْ الْمُعَارَضَةُ، فَثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَقْدِيمُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُحَابَاةِ؛ إذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ لِلْعِتْقِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّعَارُضِ، وَلَا يُقَدَّمُ غَيْرُهُ بَلْ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا (وَمِنْهُمْ) مِنْ قَالَ: تَعَلُّقُ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُهَا بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْعِتْقِ مِنْ